كارل ماركس: الانسان والمفكر والثوري

بعد أكثر من مائتي عام عن ولادة الثوري العظيم كارل ماركس، يمر النظام الرأسمالي بأزمة في جميع أنحاء العالم، ببينما تتحرك الطبقة العاملة إلى العمل لتغيير حياتها. في دوائر الطبقة السائدة، لم يعودوا يعلنون باستخفاف وفاة ماركس. على العكس من ذلك، هناك خوف ورعب في صفوفهم. وما زالت أفكاره تمثل أداة في يد الطبقة العاملة العالمية لتفسير العالم من أجل تغييره، بل صارت أكثر راهنية من أي وقت مضى. مساهمة منا في تخليد ذكرى ولادة هذا المفكر الثوري العظيم ننشر ترجمة هذا المقدمة التي كتبها آلان وودز للكتاب الذي نشرته دار Wellred Books عن ماركس وحياته وأعماله، بمناسبة الذكرى 200 لولادته.

[Source]

“لم يقم الفلاسفة سوى بتفسير العالم بطرق مختلفة. لكن المهمة هي تغييره”. (كارل ماركس، أطروحات عن فيورباخ).

قبل مائتي عام، في الخامس من ماي عام 1818، في مدينة ترير الألمانية، وُلد أحد أعظم الشخصيات في تاريخ البشرية. وبعد مرور قرنين من الزمان، وعلى الرغم من كل الهجمات الشرسة والتشويهات الخبيثة والمحاولات الحاقدة لتقويض صورته كإنسان ومفكر، أثبت كارل ماركس مكانته في التاريخ باعتباره منظرا عبقريا عظيما.

سواء كنت تتفق معه أو لا، فإنه قد قام بلا شك بثورة عظيمة في الفكر الإنساني وبالتالي غير مجرى التاريخ بأكمله. إنه ينتمي إلى مجمع المفكرين العظماء ويمكن وضع اسمه إلى جانب كل عظماء الفكر البشري: هيراقليطس وأرسطو وهيجل وتشارلز داروين.

تشكل اكتشافات ماركس في مجال الفلسفة والتاريخ والاقتصاد السياسي منجزات ضخمة في حد ذاتها. وحتى لو كان كل ما قام به خلال حياته هو الجزء الأول من رأس المال، فإن ذلك سيكون في حد ذاته إنجازا عظيما بما فيه الكفاية. لكن ماركس لم يكن مجرد مفكر، لقد كان إنسانا عمليا، كان ثوريا كرس حياته كلها للنضال من أجل قضية الطبقة العاملة والاشتراكية.

حياته الغنية والمتنوعة لا يمكن وصفها بشكل مناسب في بضعة أسطر، ومع ذلك فإنه بمناسبة الذكرى المائوية الثانية لميلاده، من الضروري تقديم نبذة موجزة، وبالتالي غير مكتملة، عن حياته، كمقدمة لهذا الكتاب.

حياة ماركس

وُلد ماركس قبل مائتي عام، في ألمانيا، فيما كان آنذاك جزءا من بروسيا. ومع ذلك فإن مقاطعات راينلاند، التي تنتمي إليها ترير، كانت مختلفة في كثير من النواحي عن بقية الأراضي البروسية المتخلفة وشبه الإقطاعية والرجعية الموجودة في الشرق.

بعد ضم منطقة راينلاند إلى فرنسا خلال الحروب النابليونية، تعرض سكانها للأفكار الجديدة مثل حرية الصحافة والحرية الدستورية والتسامح الديني. وعلى الرغم من إعادة دمجها في الإمبراطورية البروسية بموجب قرارات مؤتمر فيينا، قبل ثلاث سنوات من ولادة ماركس، فإن بصمة تلك السنوات تركت آثارها على التفكير التقدمي لأكثر فئات المجتمع استنارة.

كان كارل هاينريش واحدا من تسعة أطفال في عائلة هاينريش وهنريتا ماركس. كان والد ماركس محاميا يتبنى نظرة تقدمية نسبياً، وكان يقرأ كانط وفولتير، ويدافع عن إصلاح الدولة البروسية. كانت الأسرة ميسورة الأحوال. لم يتعرض ماركس للفقر أو الحرمان أبدا خلال طفولته وفي شبابه المبكر، رغم أنه عانى كثيرا من هذه الأشياء في حياته اللاحقة.

كان كلا الوالدين يهوديين، لكن والد كارل تحول إلى المسيحية عام 1816، في سن الخامسة والثلاثين. وربما كان هذا بسبب قانون عام 1815 الذي حظر على اليهود الانضمام إلى المجتمع الراقي. ومن المعبر أنه اختار العقيدة اللوثرية، على الرغم من أن معظم الناس في ترير كانوا من الروم الكاثوليك، وذلك لأنه “ساوى بين البروتستانتية وبين حرية الفكر”. ومع ذلك فإن هاينريش ماركس لم يكن ثوريا وكان سيصاب بالرعب بلا شك لو أنه علم بالمسار المستقبلي لابنه الحبيب كارل.

بعد تخرجه من المدرسة، ذهب ماركس إلى الجامعة، حيث درس القانون، ثم التاريخ والفلسفة فيما بعد. وأثناء دراسته في برلين وقع تحت تأثير الفيلسوف العظيم هيغل. لقد رأى أن لديالكتيك هيغل، تحت قشرته المثالية السطحية، مضامين ثورية عميقة جدا. وقد شكلت هذه الفلسفة الديالكتيكية الأساس لكل تطوره الأيديولوجي اللاحق.

انضم ماركس إلى التيار المعروف باسم “الهيغليين اليساريين”، الذين استخلصوا استنتاجات جذرية وإلحادية من الفلسفة الهيغلية. لكنه سرعان ما أصبح غير راض عن الثرثرة اللانهائية والتلاعب الجدالي بالكلمات لهؤلاء الأكاديميين الراديكاليين الذين سرعان ما تحولوا إلى مجرد تجمعات للنقاش.

تأثر ماركس بشدة بأفكار لودفيج فيورباخ، الذي بدأ من نقد الدين  وسار في اتجاه المادية. لكنه انتقد فيورباخ لرفضه الراديكالي للديالكتيك الهيغلي. لقد نجح ماركس في الجمع ببراعة بين المادية الفلسفية وبين الديالكتيك لإنتاج فلسفة ثورية مختلفة تماما.

ومسلحا بهذه الأفكار الثورية، تعاون ماركس الشاب مع مجموعة من الهيغليين اليساريين في راينلاند الذين أسسوا صحيفة راديكالية أطلقوا عليها اسم راينش تسايتونغ (Rheinische Zeitung). وبصفته محررا للصحيفة، كتب عددا من المقالات الثورية الرائعة. حققت الصحيفة نجاحا فوريا، لكنها سرعان ما جذبت انتباه السلطات البروسية التي أخضعتها لرقابة صارمة. في البداية تمكن ماركس الشاب من مراوغة القبضة الحديدية للرقابة ببراعة كبيرة، لكنها رغم ذلك تعرضت للإغلاق في النهاية.

وفي عام 1836، عندما كان ماركس قد أصبح أكثر انخراطا في النضال السياسي، ارتبط سرا بجيني فون ويستفالن، وهي امرأة شابة جميلة تنحدر من عائلة أرستقراطية كانت تُعرف باسم “أجمل فتاة في ترير”. كانت تكبره بأربع سنوات وتنتمي لطبقة أعلى بالتأكيد، لكنها كانت وماركس حبيبين منذ الطفولة، وقد كانا حسب كل ما نعرفه عنهما مخلصين تماما لبعضهما البعض.

والد جيني، البارون لودفيج فون ويستفالن، الذي كان أحد كبار المسؤولين في حكومة المقاطعة الملكية البروسية، كان رجلا من سلالة أرستقراطية من كلا الأبوين: كان والده رئيس الأركان العامة خلال حرب السنوات السبع، وكانت والدته، الاسكتلندية آن ويشارت، سليلة آل إيرلز أرغيل. لذلك ليس من المستغرب أنهما أبقيا علاقتهما سرية لفترة طويلة. وفي يونيو 1843، بعد ثلاثة أشهر من إغلاق راينش تسايتونغ، تزوجا أخيرا، وفي أكتوبر، انتقلا إلى باريس.

أعتقد أنه لم يتم إيلاء اهتمام كاف لهذه المرأة الرائعة، التي قدمت تضحيات هائلة لدعم زوجها في عمله الثوري. لا بد أنها عانت الكثير، حيث انفصلت عن عائلتها واضطرت للسفر من بلد إلى آخر، وشاركت ماركس في الحرمان والعيش في ظل أصعب الظروف. لقد رأت أطفالها يعانون الشقاء ويمرضون ويموتون. وعندما توفي ابنها إدغار في لندن، لم يكن لديهما، هي وماركس، ما يكفي من المال لدفع ثمن التابوت.

شقيق جيني الأكبر، فرديناند، أصبح في وقت لاحق، وزير الداخلية القمعي في الحكومة البروسية، وذلك ما بين 1850 و1858، أي في ذروة الردة الرجعية الأوروبية. وهكذا نجد أنفسنا أمام مفارقة حيث هناك رجل منخرط من منفاه في لندن في العمل الثوري لتخريب الدولة البروسية، بينما كان صهره في برلين مسؤولا عن اضطهاد الثوريين داخل وخارج حدود بروسيا. لا يعرف التاريخ الكثير من المواقف الساخرة مثل هذا الموقف!

في باريس

في خريف 1843، انتقل ماركس إلى باريس لإصدار صحيفة راديكالية في الخارج مع أرنولد روج. وفي ذلك الجو الملتهب الذي كانت تعرفه باريس في ذلك الوقت، تمكن ماركس من ربط الاتصال مع مجموعات منظمة من العمال المهاجرين الألمان ومع تيارات مختلفة من الاشتراكيين الفرنسيين. في ذلك الوقت كانت رياح الثورة قد بدأت تهب بقوة في جميع أنحاء أوروبا، وخاصة في باريس. في عام 1843صارت باريس، ليس للمرة الأولى أو الأخيرة، مركز الحراك السياسي لأوروبا.

ومع ذلك فإنه لم يصدر سوى عدد واحد فقط من تلك الجريدة (دويتشه فرانسيتش جاربوشر)، إذ توقف نشرها بسبب صعوبة توزيعها سرا في ألمانيا، وبسبب الاختلافات الفلسفية بين ماركس وروج. عندها بدأ ماركس في الكتابة لصحيفة راديكالية أخرى هي فوروارتز، والتي كانت مرتبطة بمنظمة أصبحت فيما بعد تدعى الرابطة الشيوعية.

في ذلك الوقت تقريبا، بدأت واحدة من أكثر أشكال التعاون استثنائية في التاريخ. ففي شتنبر 1844، جاء شاب يدعى فريدريك إنجلز إلى باريس لبضعة أيام للعمل كمساهم في الصحيفة، فصار منذ ذلك الوقت أقرب صديق ورفيق لماركس. لقد صار الاسمان ماركس وإنجلز اليوم مرتبطين بشكل وثيق وكأنهما لشخص واحد.

خلال الفترة التي قضاها في باريس، من أكتوبر 1843 حتى يناير 1845، عاش ماركس في منزل رقم 38 شارع فانو. وهناك انخرط ماركس في دراسة مكثفة للاقتصاد السياسي، والتهم أعمال آدم سميث وديفيد ريكاردو وجيمس ستيوارت ميل، وكذلك أعمال الاشتراكيين الطوباويين الفرنسيين كسان سيمون وفورييه. هناك بدأ يتشكل جنين اكتشافاته المستقبلية في مجال الاقتصاد.

بروكسل

سرعان ما جذبت أنشطة ماركس الثورية انتباه السلطات في برلين. فطالبت الحكومة البروسية السلطات الفرنسية باتخاذ إجراء ضده، وهو ما كانت الأخيرة سعيدة للغاية بفعله. بعد طرده من باريس في نهاية 1844، انتقل ماركس إلى بروكسل، حيث انضم إلى جمعية الدعاية السرية، الرابطة الشيوعية. وعلى الرغم من انتقاله فقد بقي يعاني من قيود صارمة على نشاطه. لقد أجبر على التعهد بعدم نشر أي شيء عن موضوع السياسة المعاصرة.

ربط ماركس وإنجلز على الفور علاقة وثيقة بينهما جمع الرجلان فيها بين تجارب ومزاجات مختلفة من أجل التوصل إلى منظومة جديدة تماما ومبتكرة من الأفكار. كان إنجلز، بصفته ابن رأسمالي ألماني ثري، قادرا على الجمع بين خبراته الملموسة في الإنتاج الرأسمالي وبين عمل ماركس الرائد في مجال الفلسفة. عرض إنجلز على ماركس كتابه الذي كان قد نشره مؤخرا والمعنون بـ”وضع الطبقة العاملة في إنجلترا”. كان قد توصل بالفعل إلى استنتاج مفاده أن الطبقة العاملة هي أهم عامل للتغيير الاجتماعي.

كان إنجلز أيضا هو أول من بدأ في وضع المبادئ الأساسية التي آتت ثمارها لاحقا في المجلدات الثلاثة من كتاب ماركس رأس المال. لكنه بتواضعه المميز قبل دائما بأولوية ماركس في مجال الأيديولوجيا، واحتفظ لنفسه بدور تلميذ متواضع مخلص، على الرغم من أن مساهمته في النظرية الماركسية تعادل في أهميتها إسهام ماركس نفسه.

في أبريل 1845، انتقل إنجلز من ألمانيا إلى بروكسل لينضم إلى ماركس. شرع الاثنان معا في كتابة نقد لفلسفة برونو باور، الهيغلي الشاب الذي كان ماركس قريبا منه في السابق. تم نشر أول نتيجة للتعاون بينهما، بعنوان العائلة المقدسة، في عام 1845. وقد شكلت بداية القطيعة مع التيار الهيغلي اليساري ونقطة البداية لانطلاقة جديدة تماما.

في عام 1846، كتب ماركس وإنجلز الأيديولوجيا الألمانية، حيث طورا لأول مرة نظرية المادية التاريخية. كان ذلك بمثابة القطيعة النهائية مع الهيغليين الشباب. اعتنق ماركس أخيرا فكرة الاشتراكية باعتبارها الحل الوحيد لمشاكل البشرية. لكن ولسوء الحظ  لم يكن هناك أي ناشر على استعداد للمخاطرة بنشر “الأيديولوجيا الألمانية”، التي، مثلها مثل أطروحات حول فيورباخ، لم تر النور إلا بعد وفاة ماركس.

خاض ماركس وإنجلز صراعا لا هوادة فيه ضد الأفكار المشوشة للاشتراكية البرجوازية الصغيرة، وسعيا جاهدين لوضع أفكار الاشتراكية على أساس علمي. في باريس في ذلك الوقت كانت أفكار برودون شبه اللاسلطوية رائجة بين بعض الجماعات الثورية. فأخضعها ماركس لانتقادات لاذعة في الكتاب الذي نشره عام 1847 تحت عنوان “بؤس الفلسفة”، مدعوما بالحقائق وباقتباسات كثيرة من كتابات برودون نفسه.

في بداية عام 1846 ، حاول ماركس ربط الاشتراكيين من جميع أنحاء أوروبا عن طريق لجنة المراسلات الشيوعية. كان على اتصال مع منظمة سرية من الحرفيين في باريس وفرانكفورت تسمى عصبة العادلين. كانت مجموعة صغيرة (تضم حوالي مائة عضو في باريس وثمانين في فرانكفورت) وكانت لديها أفكار مشوشة للغاية. أقنعهم ماركس بالتخلي عن أساليبهم السرية والعمل في العلن كحزب سياسي عمالي، واندمجوا مع مجموعات أخرى لتشكيل الرابطة الشيوعية.

خلال المؤتمر الثاني للرابطة الشيوعية، الذي عقد في لندن في نوفمبر 1847، تم تكليف ماركس وإنجلز بإصدار وثيقة أصبحت تعرف باسم البيان الشيوعي. نُشرت تلك الوثيقة التأسيسية البالغة الأهمية عام 1848.

البيان الشيوعي ونيو رينش زيتونغ

يبدو من المدهش اليوم أن ماركس وإنجلز كتبا البيان الشيوعي عندما كانا ما يزالان شابين صغيرين، لم يكن ماركس قد بلغ بعد سن الثلاثين، وكان إنجلز أصغر منه بثلاث سنوات. ومع ذلك فإن هذه الوثيقة الرائعة تمثل نقطة تحول في التاريخ. إنها ما تزال جديدة وراهنية الآن كما كانت عندما صدرت لأول مرة، بل إنها في الواقع أكثر راهنية اليوم من أي وقت مضى.

صدرت تلك الوثيقة في أفضل توقيت. لم يكن الحبر الذي كتبت به قد جف بعد عندما اندلعت موجة قوية من الثورات في جميع أنحاء أوروبا. أطاحت ثورة فبراير في فرنسا بملكية أورليانز وأدت إلى إنشاء الجمهورية الثانية.

هناك حكاية مفادها أن ماركس، الذي كان قد تلقى مؤخرا ميراثا كبيرا من والده (حجبه عمه)، استخدم جزءا كبيرا منه لشراء الأسلحة للعمال البلجيكيين الذين كانوا يتجهون نحو العمل الثوري. لا نعرف ما إذا كانت القصة صحيحة أم لا، لكن وزارة العدل البلجيكية صدقتها بالتأكيد واستخدموها ذريعة لاعتقاله.

وهكذا أُجبر ماركس على الفرار مجددا إلى فرنسا، حيث ظن أنه سيكون بأمان في ظل الحكومة الجمهورية الجديدة. لكن ذلك كان أملا خاطئا. كان الجمهوريون البرجوازيون الفرنسيون مرعوبين من الطبقة العاملة التي كانت قد بدأت في تقديم مطالب طبقية مستقلة تهدد الملكية الخاصة، وبالتالي فإن آخر ما كانوا يحتاجونه في ظل تلك الظروف هو وجود رجل مثل ماركس في باريس.

كان ماركس مقتنعا بأن ألمانيا، بعد فرنسا، على أعتاب ثورة. انتقل إلى كولونيا، حيث أسس صحيفة جديدة -نيو رينش زيتونغ- التي بدأ نشرها في 01 يونيو 1848. قدمت الصحيفة خطا ديمقراطيا راديكاليا للغاية ضد الاستبداد البروسي وكرس ماركس أغلب طاقاته لتحريرها (كانت الرابطة الشيوعية قد تم حلها). واستمر في ذلك العمل من يونيو 1848 إلى أن تعرضت الصحيفة للمنع يوم 19 ماي 1849.

كانت نيو رينش زيتونغ نموذجا للصحيفة الثورية وقد قامت بدور نشط في الأحداث الثورية لسنوات 1848-1849. لكن انتصار الثورة المضادة وضع حد لذلك النشاط. تعرض ماركس للمحاكمة بسبب نشاطه الثوري. تمت تبرئته في 09 فبراير 1849، لكنه تعرض للنفي من ألمانيا في 16 ماي 1849.

عاد ماركس مرة أخرى إلى باريس، لكنه تعرض للنفي من فرنسا بعد مظاهرة 13 يونيو 1849. وبسبب رفض بروسيا منحه جواز سفر، صار منفيا بلا جنسية وبلا مال. عندها انتقل إلى لندن، التي كانت في تلك الأيام أكثر تسامحا مع المنفيين السياسيين وأكثر ترحيبا بهم مما هي عليه اليوم. وعلى الرغم من أن بريطانيا حرمته بدورها من الجنسية، فإنه استمر يعيش في لندن حتى وفاته. في ماي 1849 بدأ “ليلة المنفى الطويلة بلا نوم” التي استمرت حتى نهاية حياته.

لندن

عند وصوله إلى لندن كان ماركس ما يزال متفائلا بشأن اقتراب اندلاع ثورة جديدة في أوروبا. كتب كراستين مطولتين عن ثورة 1848 في فرنسا وعواقبها: “الصراعات الطبقية في فرنسا”، و”الثامن عشر من برومير لويس بونابرت”. وخلص إلى أن “اندلاع ثورة جديدة رهين بحدوث أزمة جديدة”، ثم كرس نفسه لدراسة الاقتصاد السياسي من أجل تحديد أسباب وطبيعة أزمة الرأسمالية.

عاش ماركس وعائلته في ظروف من الفقر المدقع خلال معظم الوقت الذي أمضوه في لندن. وجد عملا كمراسل لصحيفة نيويورك ديلي تريبيون، وهو التعاون الذي استمر عشر سنوات من 1852 إلى 1862. ومع ذلك فإن ماركس لم يكن قادرا على كسب أجر كاف من خلال عمله الصحفي. خلال النصف الأول من خمسينيات القرن التاسع عشر، عاشت عائلة ماركس في ظروف مزرية في شقة من ثلاث غرف في حي سوهو بلندن. كان لدى ماركس وجيني أربعة أطفال، سيتبعهم ثلاثة أطفال آخرين. ومن بين هؤلاء لم ينج سوى ثلاثة فقط.

في رسالة بعثها إلى فريدريك إنجلز في يونيو 1854 كتب كارل ماركس بضجر: “طوبى لمن ليست لديه عائلة”. كان في السادسة والثلاثين من عمره في ذلك الوقت وكان قد فقد الاتصال بأقاربه منذ فترة طويلة. كان والده قد توفي وكانت علاقته مع والدته سيئة. لم يتمكن ماركس وعائلته من البقاء على قيد الحياة إلا بفضل كرم صديقه فريدريك إنجلز.

كانت عائلة ماركس مكونة من سبعة أطفال، توفي أربعة منهم في سن الرضاعة أو أثناء الولادة. لكنهم وعلى الرغم من كل المصاعب كانوا عائلة سعيدة. أحب ماركس بناته بشدة وكن يعشقنه بدورهن. كان يخصص لحظات فراغه في المساء للعب معهن وكان يقرأ لهن من الكلاسيكيات. كانت رواية دون كيشوت هي المفضلة بشكل خاص، لكنهم قرأوا أيضا مسرحيات شكسبير، حيث كان ماركس وأطفاله يتناوبون على قراءة أجزاء مختلفة. قالت عنه ابنته إليانور: “لقد كان حكواتيا فريدا من نوعه”.

من بين البنات الثلاث اللائي بقين على قيد الحياة -جيني ولورا وإليانور- تزوجت اثنتان من فرنسيين. وقد لعب أحد هؤلاء الرجال، بول لافارج، دورا نشيطًا في الحركة الماركسية وساعد في تأسيس الحزب الاشتراكي في إسبانيا. كانت إليانور ماركس نشيطة في الحركة العمالية البريطانية كمنظمة عمالية كفاحية.

لم يقتصر عمل ماركس على النظرية وحدها، فطوال الوقت الذي قضاه في لندن قام بدور نشيط في تعزيز وتطوير الحركة العمالية الأممية. ساعد ماركس في تأسيس جمعية تعليمية للعمال الألمان، بالإضافة إلى مقر جديد للرابطة الشيوعية. لكنه شعر بالإحباط من الصراعات العصبوية التي لا تنتهي للمهاجرين، وفي النهاية قطع جميع العلاقات معهم، مع حفاظه على اتصالات وثيقة دائمة مع الأعضاء النشيطين داخل الحركة العمالية البريطانية.

حدث تحول حاسم في الوضع في عام 1864، ففي 28 شتنبر من تلك السنة تأسست الرابطة الأممية للعمال – المعروفة عندنا باسم الأممية الأولى. لقد كان ماركس منذ البداية قلب وروح هذه المنظمة، ومؤلف أول خطاب لها ومجموعة من القرارات والإعلانات والبيانات. كرس الكثير من وقته خلال السنوات القليلة اللاحقة للحفاظ على استمرارية عمل الأممية. وإلى جانب إنجلز حافظ على اتصالات واسعة مع العمال المتقدمين في العديد من البلدان، بما في ذلك روسيا.

اضطر ماركس إلى خوض نضال لا هوادة فيه ضد جميع أنواع الانحرافات البرجوازية الصغيرة داخل صفوف الأممية: ضد اشتراكية برودون الطوباوية، والنزعة القومية البرجوازية لمازيني الإيطالي، وانتهازية قادة النقابات الإصلاحيين البريطانيين، وقبل كل شيء ضد  مؤامرات اللاسلطوي باكونين وأتباعه.

نجح ماركس في النهاية في كسب الصراع الأيديولوجي، لكن الظروف التي كانت تتشكل فيها قوى الأممية الفتية تحولت في اتجاه غير موات. كانت هزيمة كومونة باريس بمثابة الضربة القاضية لها.

ونظرا للوضع غير المواتي في أوروبا، اقترح ماركس عام 1872 نقل مقر المجلس العام من لندن إلى نيويورك، على أمل أن يوفر الصراع الطبقي المتصاعد في العالم الجديد فرصا جديدة للأممية. لكنه لم يكن في مقدور أي شيء أن يمنع تدهورها. كان أهم إنجاز للأممية الأولى هو أنها وفرت أساسا أيديولوجيا صلبا للتطورات المستقبلية، لكنها كمنظمة لم يعد لها وجود.

ساءت أوضاع ماركس الصحية بسبب العمل المرهق في الأممية ودراساته النظرية وكتاباته الأكثر إرهاقا. واصل العمل بلا كلل في دراسة الاقتصاد السياسي واستكمال كتابه رأس المال، الذي جمع من أجل كتابته كما هائلا من المواد الجديدة ودرس عددا من اللغات بما في ذلك الروسية.

وفاته

لم يكن ماركس يهتم بصحته أبدا. قد يكون حبه الشديد للأطعمة المتبلة والنبيذ، إلى جانب الإفراط في تدخين السيجار، قد ساهم في تدهور صحته، التي قوضتها سنوات الفقر المدقع. وخلال السنوات العشر الأخيرة من حياته، لم تعد أمراضه المتكررة تسمح له بالقيام بأي عمل فكري مستمر.

لكنه وعلى الرغم من نوبات الاعتلال الصحي المتزايدة، فقد ألقى بنفسه في دراسة ضخمة لقوانين الرأسمالية وتاريخها، مطورا نظرية اقتصادية جديدة تماما. وفي سياق استعداده لكتابة رأس المال، قرأ كل الكتابات المتاحة في مجال النظرية والممارسة الاقتصادية والمالية. يكفي المرء أن يقرأ الهوامش الواسعة لهذا الكتاب العظيم لكي يدرك الكم الهائل من الأبحاث المضنية التي بذلت في صياغته.

في عام 1867، نشر المجلد الأول من رأس المال، وأمضى بقية حياته في كتابة ومراجعة المسودات للمجلدات المتبقية، التي ظلت غير مكتملة وقت وفاته. وبعد وفاته قام إنجلز بعمل شاق جدا في تجميع المجلدين المتبقيين وتحريرهما ونشرهما.

كانت الضربة الأخيرة التي قضت على صحة ماركس هي وفاة جيني فون ويستفالن، التي توفيت، في 02 دجنبر 1881، نتيجة إصابتها بالسرطان، عن عمر يناهز السابعة والستين. شكلت هذه، إلى جانب وفاة ابنته الكبرى، مأساة شخصية قاسية لم يتعاف منها أبدا ولبدت سماء السنوات الأخيرة من حياته.

توفي كارل ماركس، في لندن في 14 مارس 1883، بسبب مرض ذات الجنب. تم دفنه بجانب زوجته في مقبرة هاي جيت في لندن. وعندما مات تم العثور على صورة لوالده في جيب صدريته، وضعت معه في نعشه ودفن في مقبرة هايغيت. كان قبره الأصلي يحتوي على حجر متواضع فقط، وقد تم تخريبه وإهماله الآن من قبل الزوار الذين توافدوا على النصب الضخم الذي أقيم في نوفمبر 1954 عندما أعيد دفن ماركس وعائلته في موقع جديد ليس بعيدا عن القديم.

يحمل القبر الجديد، الذي أزيح الستار عنه في 14 مارس 1956 نقشا كتب عليه: “يا عمال العالم اتحدوا!” والعبارة المقتطفة من أطروحات حول فيورباخ: “لم يقم الفلاسفة سوى بتفسير العالم بطرق مختلفة. لكن المهمة هي تغييره”.

لكن النصب الحقيقي لماركس ليس موجودا في مقبرة هايغيت. إنه ليس مصنوعا من الحجر أو البرونز، بل إنه مصنوع من مادة أقوى بكثير وأكثر صلابة، إنه مصنوع من الأفكار الخالدة الواردة في أكثر من خمسين مجلدا. هذا هو النصب التذكاري الوحيد الذي كان ماركس ليرغب فيه. إنه حجر الأساس لحركة الطبقة العاملة العالمية وضمانة انتصارها المستقبلي.

آلان وودز

04 ماي 2018

عنوان ومصدر النص الأصلي:

Karl Marx: the man, thinker and revolutionary