البلشفية طريق الثورة الفصل الخامس: سنوات الحرب الجذور الاجتماعية للشوفينية

كافح الاشتراكيون في كل مكان لفهم ما حدث. لا يمكن تفسير حدث بذلك الحجم بالاكتفاء بالخصائص الشخصية للأفراد - على الرغم من أن الصفات الشخصية لعبت دورا بدون شك، كما رأينا في الموقف الشجاع الذي اتخذه كارل ليبكنخت في ألمانيا. لقد فسر كل من لينين وتروتسكي ذلك بالفترة الطويلة من الانتعاش الرأسمالي الذي سبق الحرب العالمية الأولى. كانت الأحزاب الجماهيرية للأممية الثانية قد تشكلت في ظل ظروف التشغيل الكامل والارتفاع المتزايد في مستويات المعيشة التي شكلت الأساس لسياسة "السلم الطبقي". شهدنا حالة مماثلة في البلدان الرأسمالية المتقدمة بين عامي 1948 و 1974. وقد كانت النتائج متشابهة في كلتا الحالتين. أوضح ماركس منذ زمن بعيد أن: "الوجود الاجتماعي يحدد الوعي". يميل القادة العماليون، في مثل تلك الظروف، إلى فصل أنفسهم عن الطبقة العاملة. وبسبب تعودهم على الجو الدافئ داخل البرلمان أو مكاتب النقابة المغلقة، واستمتاعهم بمستوى معيشة متميز، ينهارون تدريجيا تحت ضغط الطبقات الأخرى.

[Source]

كان التعبير النظري عن ذلك الضغط هو بروز النزعة التحريفية، أي التأكيد على أن أفكار ماركس وإنجلز قد صارت قديمة ويجب تعديلها. وبدلا من السياسات الثورية، بدأوا يدافعون عن الإصلاحات البرلمانية السلمية والتدريجية. كان شعارهم هو: "اليوم أفضل من الأمس؛ وغدا سيكون أفضل من اليوم". أكدوا أنهم سيصلحون النظام الرأسمالي ببطء وبشكل سلمي وتدريجي، إلى أن يتحول بشكل سلس إلى اشتراكية. يا لها من فكرة جميلة! كم هي عملية! كم هي اقتصادية! ليس هناك من إنسان عاقل قد يفضل طريق النضال والثورة الوعر على مثل هذا المنظور الرائع للمستقبل. لكن جميع النظريات يجب عليها، لسوء الحظ، أن تواجه عاجلا أو آجلا محك الممارسة. لقد وضعت أحداث غشت 1914 أحلام الإصلاحيين على الميزان فوجدتها بدون قيمة. فجميع الأوهام الجميلة عن البرلمانية السلمية والتغيير التدريجي انتهت في أوحال الخنادق والدماء والغازات السامة.

من خلال فضحه لأكاذيب الديماغوجية الشوفينية والنزعة السلمية العاطفية، شرح لينين الجذور السوسيو اقتصادية للاشتراكية الشوفينية وأساسها الطبقي الذي هو الأرستقراطية العمالية. لقد تشكلت أحزاب الأممية الثانية ونقاباتها الجماهيرية في فترة طويلة من الانتعاش الرأسمالي والعمالة الكاملة التي كان من الممكن خلالها تقديم الإصلاحات والتنازلات للطبقة العاملة ولا سيما فئاتها العليا. وفي ظل هذه الظروف تشكلت قشرة بيروقراطية سميكة على رأس المنظمات العمالية، تتألف من عدد كبير من أعضاء البرلمان ومسؤولي النقابات والصحفيين، ومن شابههم، ومن بينهم شرذمة من الوصوليين الراغبين في الترقي الاجتماعي، المنفصلين عن بقية الطبقة العاملة بأجورهم العالية وأسلوب حياتهم ونفسيتهم والذين تشبعوا بالأفكار البرجوازية المستمدة من مستويات معيشتهم والوسط الاجتماعي الذي انتقلوا إليه. كانت عقود من التطور البطيء والسلمي، في ظروف الازدهار وغياب الصراع الطبقي لفترات طويلة (باستثناء روسيا) تعني أن المنظمات الجماهيرية، وخاصة الفئة القيادية داخلها، قد أصبحت تحت ضغط الطبقات الأخرى بشكل متزايد. وبينما استمروا يعلنون ولاءهم للنضال الطبقي والاشتراكية أمام أنصارهم داخل الحزب، كان سلوكهم في الممارسة محصورا بالكامل بحدود ما تسمح به الشرعية البرجوازية و"الرأي العام". لقد وقعوا ضحية لذلك المرض الفتاك الذي سماه ماركس "البلاهة البرلمانية. وفي مقالته "المصير التاريخي لمذهب كارل ماركس"، حدد لينين طبيعة تلك الرحلة قائلا:

«تمتاز المرحلة الثانية (1872 – 1904) عن المرحلة الأولى بطابعها "السلمي"، بانعدام الثورات. كان الغرب قد انتهى من الثورات البرجوازية، بينما لم يكن الشرق قد نضج بعد لهذه الثورات. دخل الغرب في مرحلة التحضير "السلمي" للتغيرات المقبلة: في كل مكان تشكلت أحزاب اشتراكية، بروليتارية من حيث الأساس، وأخذت تتعلم استخدام البرلمانية البرجوازية وإصدار صحافتها اليومية وإنشاء مؤسساتها التثقيفية ونقاباتها وتعاونياتها. حقق مذهب ماركس انتصارا كاملا وأخذ في الانتشار. وببطء، لكن بثبات، تطور انتقاء وحشد قوى البروليتاريا، وإعدادها للمعارك المقبلة.

سار ديالكتيك التاريخ بحيث أن انتصار الماركسية في حقل النظرية أجبر أعداءها على إخفاء حقيقتهم بقناع الماركسية. وحاولت الليبرالية، التي كانت قد تعفنت، أن تستأنف نشاطها تحت ستار الانتهازية الاشتراكية. فسروا مرحلة إعداد القوى للمعارك الكبيرة بأنها عدول عن تلك المعارك، واعتبروا أن تحسين ظروف العبيد بغية النضال ضد العبودية المأجورة ينبغي أن يعني تنازل العبيد عن حقوقهم في الحرية مقابل بضعة سنتيمات. صاروا يدعون بجبن إلى "السلام الاجتماعي" (أي إلى السلام مع مالكي العبيد) والتخلي عن الصراع الطبقي، إلخ. كان لديهم الكثير من الأنصار بين البرلمانيين الاشتراكيين ومختلف المسؤولين داخل الحركة العمالية وبين المثقفين "المتعاطفين"».[1]

لم يكن القادة اليمينيون هم التيار الوحيد داخل الأممية الاشتراكية الديمقراطية، بل كانت هناك أيضا تيارات وسطية - كارل كاوتسكي ورودولف هيلفيردينغ وهوغو هاس في ألمانيا؛ جان لونغيت وألفونس ميريم في فرنسا؛ رامسي ماكدونالد في بريطانيا؛ فيكتور أدلر في النمسا، وغيرهم. كانت السياسة المعتادة لهؤلاء هي الاختباء وراء النزعة السلمية، لكن مع تجنب خوض صراع حقيقي ضد الاشتراكيين الشوفينيين اليمينيين. وقد وجه لينين هجماته الأكثر شدة ضد هذا الاتجاه باعتباره العقبة الرئيسية التي تمنع العمال من سلوك الطريق الثوري. لقد كانوا، كما قال: "يساريين قولا، يمينيين بالأفعال"، وهو الوصف الذي ينطبق على الإصلاحيين اليساريين في كل مرحلة.

ببطء بدأ الجناح الثوري في التعافي من الضربة القاتلة التي تعرض لها في غشت 1914. وبدأت عمليات التجميع تنشط تدريجيا في كل مكان. مرت قوى الأممية الثورية، في كل مكان تقريبا، من تمايز داخلي وانشقاقات داخل المنظمات الجماهيرية القديمة، أي الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والنقابات. ضم اليسار الأممي كلا من كارل ليبنكنخت وروزا لوكسمبورغ وكلارا زيتكن في ألمانيا؛ ديميتر بلاغويف وفاسيل كولاروف في بلغاريا؛ جون ماكلين في اسكتلندا؛ وجيمس كونولي في أيرلندا، بالإضافة إلى الاشتراكيين الديمقراطيين الصربيين الذين صوت نائباهم في البرلمان ضد ميزانية الحرب. أصدرت المنظمة الاشتراكية البلغارية "تيسنياكي" بيانا مناهضا للحرب وصوتت ضد عسكرة البلاد. كان هذا الجانب الإيجابي، لكن من جانب آخر، انتقل بعض اليساريين السابقين، مثل بارفوس في ألمانيا وبليخانوف في روسيا، إلى معسكر الاشتراكية الشوفينية. كان التيار اليساري الأممي داخل الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني هو الأقوى بعد روسيا وصربيا وبلغاريا.

في 02 دجنبر 1914 ، صوت كارل ليبكنخت ضد ميزانية الحرب في الرايخستاغ. كان هذا العمل الشجاع نقطة تحول أعطت الأمل للعمال اليساريين ليس فقط داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، بل في جميع البلدان المتحاربة. في 04 دجنبر صوت اجتماع لمناضلي الحزب في هال لدعم موقف ليبكنخت. حاول البلاشفة الاتصال باليسار الألماني، لكنهم وجدوا ذلك مستحيلا من الناحية العملية سواء عبر سويسرا أو البلدان الاسكندنافية. كان ذلك مهما بشكل خاص بسبب المكانة الهامة التي يحتلها الحزب الألماني داخل الأممية. لقد اتخذ الأمميون الثوريون، مثل روزا لوكسمبورغ وفرانز ميهرنغ، موقفا شجاعا ضد الحرب. وفي النمسا كذلك بدأ اليسار في تنظيم صفوفه. كما أنه في بريطانيا، ولا سيما في اسكتلندا، كانت هناك اجتماعات مناهضة للحرب وإضرابات. أدت الحرب إلى طرح القضايا الأساسية بطريقة حادة للغاية، فأثارت سلسلة من الأزمات والانقسامات داخل أحزاب "اليسار" في بريطانيا - الحزب الاشتراكي وحزب العمال الاشتراكي وأيضا داخل حزب العمال المستقل- وهي الانقسامات التي تشكلت منها قوات الحزب الشيوعي في المستقبل.

في فرنسا أيضا كانت هناك معارضة يسارية متنامية داخل الحزب الاشتراكي والنقابات العمالية. قاد التيار النقابي الثوري، بزعامة ألفريد روسمر وبيير موناتي، المعارضة ضد القادة الإصلاحيين اليمينيين السابقين. ومع استمرار الحرب بدأت قاعدة دعم الشوفينيين في التفكك. انخفض تداول الصحيفة اليمينية الشوفينية "لومانيتيه" بحوالي الثلث. وفي إيطاليا برز التيار الاشتراكي الثوري، الذي كانت تمثله صحيفة أفانتي ، التي كان يحررها جياشينتو سيراتي، في حين كان زعيم الجناح اليميني داخل الحزب الاشتراكي هو الدكتاتور الفاشستي المستقبلي موسوليني. كما تبنى الاشتراكيون الديمقراطيون الرومانيون بدورهم موقفا ثوريا مناهضا للحرب. ونظم "اليساريون" الهولنديون صفوفهم حول صحيفة تريبيون، لكن قائدهم ، أنتون بانيكويك عانى، مثله مثل العديد من القادة الآخرين، من النزعة اليسراوية المتطرفة التي كانت سائدة في ذلك الوقت كرد فعل ضد سياسة القادة اليمينيين. وبشكل عام كان اليسار مؤلفا من قوى ضعيفة إلى حد ما، معظمها من الشباب الذين كانوا يفتقرون إلى الخبرة وهو ما عبر عن نفسه في تبني مواقف يسراوية متشددة أقرب إلى النزعة اللاسلطوية النقابية.

هوامش:

1 : Reproduced in Lenin’s Struggle for a Revolutionary International, p. 101.

عنوان النص بالإنجليزية:

Bolshevism: The Road to Revolution