البلشفية طريق الثورة: الفصل السادس: سنة الثورة – ثورة فبراير

استهل عام 1917 بموجة من الإضرابات في بتروغراد، بعد فترة هدوء قصيرة في نوفمبر ودجنبر 1916. وفقا لأرقام مفتشية المصانع شارك في الإضرابات، في شهر يناير وحده، 270.000 عامل، من بينهم 177.000 في بتروغراد وحدها. كانت الحرب قد خلقت وضعا لا يطاق بالنسبة للجماهير، وانضافت إلى كابوس الحرب أهوال الأزمة الاقتصادية العميقة. فبحلول دجنبر 1916، كان 39 مصنعا في بتروغراد متوقفا عن العمل بسبب نقص الوقود و11 مصنعا آخر بسبب انقطاع التيار الكهربائي. كان قطاع السكك الحديدية على وشك الانهيار. ولم يكن هناك لحم وكان هناك نقص مهول في الدقيق. اجتاح الجوع البلد وأصبحت طوابير الخبز مظهرا طبيعيا للحياة اليومية. وإلى كل هذا يجب أن نضيف توالي أخبار الهزائم العسكرية وروائح الفضائح التي تأتي من البلاط وعصابة راسبوتين وحكومة النبلاء- الملكيين والمائة السود. النظام الذي يسيطر عليه الأرستقراطيون الجشعون والمضاربون المحتالون وكل أنواع الطفيليات، وقف عاريا بفساده أمام شعب مستاء بشكل متزايد. أمام هذا الوضع ناشد الليبراليون البرجوازيين، من “الكتلة التقدمية”، القيصر نيكولا بأن يقوم بإصلاحات، وحاولوا تخويفه بالثورة.

[Source]

تحت السطح كان مزاج الجماهير يتغير ببطء. وصف تروتسكي تلك السيرورة بأنها “السيرورة الجزيئية للثورة”. إنها سيرورة تتقدم بشكل تدريجي بحيث تكون غير محسوسة في غالب الأحيان، حتى بالنسبة للثوار، الذين يستخلصون أحيانا الاستنتاجات الخاطئة من مظاهر اللامبالاة وعدم وجود تعبيرات ملموسة عن الإحباط المتراكم والغضب والمرارة. إنها تشبه إلى حد كبير الارتفاع التدريجي للضغط تحت سطح الأرض قبل وقوع الزلزال. فهذه السيرورة بدورها تكون غير مرئية بالنسبة للمراقب السطحي الذي لا ينظر إلى ما هو أعمق، ولا يأخذ في الاعتبار سيرورات الضغط التي تتراكم في أعماق الأرض. لكن عندما يحدث الانفجار يؤدي إلى دهشة عامة. يتقدم مختلف أنواع “المتعلمين” بتفسيرات كثيرة، عادة ما لا تتجاوز السبب المباشر، ولا تفسر شيئا على الإطلاق. وهكذا فإنه يقال إن ثورة فبراير ناجمة عن ندرة الخبز. لكن هذا التفسير يتجاهل حقيقة أن النقص في الخبز، خلال السنوات التي تلت ثورة أكتوبر، كان أسوأ بكثير من ذي قبل، نتيجة للحرب الأهلية التي أثارتها الثورة المضادة وغزو روسيا من طرف واحد وعشرين جيشا أجنبيا. لماذا لم تنتج عن ذلك ثورة جديدة؟ لم يتم طرح هذا السؤال مطلقا، ولا يمكن الإجابة عليه إذا ما واصلنا الخلط بين السبب المباشر الذي أشعل الحركة وبين أسبابها الكامنة الأعمق؛ أي الخلط بين الحدث العرضي وبين الضرورة، مثل تلك الكتب المدرسية القديمة التي كانت تؤكد أن الحرب العالمية الأولى اندلعت بسبب اغتيال الأرشيدوق فرديناند في سراييفو، وليس بسبب تراكم التناقضات بين القوى الإمبريالية الرئيسية قبل عام 1914.

كان إضراب 09 يناير 1917 أكبر إضراب شهدته بتروغراد منذ اندلاع الحرب. كان الإضراب عاما في مقاطعتي فيبورغ ونيفسكي. وقد ضرب قطاع الصناعات الحربية بشدة. شارك فيه حوالي 145.000 عامل، كشكل من أشكال “الحركات التسخينية” السابقة للثورة. كان الإضراب مصحوبا باجتماعات ومظاهرات جماهيرية. صارت بتروغراد تشبه معسكرا مسلحا بفعل احتلالها من طرف قوات الجيش والشرطة، لكن إجراءات القمع لم تعد كافية لكبح الثورة. حاول الليبراليون البورجوازيون درء الثورة من خلال تقديم التماس للقيصر لكي يقوم بإصلاحات. توسل رودزيانكو للقيصر لكي يطيل عمر مجلس الدوما ويقوم بتعديل حكومي. وقد دعت مجموعة العمل في لجان الصناعة الحربية، التي كان يهيمن عليها المناشفة، عمال بتروغراد إلى الذهاب في 14 فبراير -يوم افتتاح الدوما- إلى قصر توريد لإظهار “تضامنهم” مع الدوما ودعم المعارضة الليبرالية. بينما ندد المكتب البلشفي بسياسة التعاون الطبقي ودعا إلى إضراب ليوم واحد في ذكرى محاكمة النواب البلاشفة. وقد استجاب لدعوة الإضراب 90.000 عامل في 58 مصنعا. كما تظاهر عمال بوتيلوف بشعارات: “تسقط الحرب!” “تسقط الحكومة!” “عاشت الجمهورية!”. ولم يكلف أحد نفسه عناء الذهاب إلى قصر توريد. اعترف رودزيانكو بأن مجلس الدوما تحول إلى مجرد “متفرج سلبي تقريبا”، في حين كان المتظاهرون يمرون تحت أنظار النواب على طول شارع نيفسكي.

أظهرت هذه الأحداث المتعاقبة أن مزاج الجماهير قد وصل إلى نقطة الغليان. زار مندوبون عن عمال مصنع بوتيلوف جميع المصانع الأخرى في مقاطعتي نارفا وفيبورغ، مما أدى إلى اندلاع حركة إضراب عام. كما حدثت انتفاضات خبز شارك فيها عدد كبير من النساء.

إضراب عمال مصنع بوتيلوف العملاق، الذي اندلع في البداية في 18 فبراير بمبادرة من بضع مئات من العمال في إحدى الورشات، والذي كان على خلفية المطالبة برفع الأجور وإعادة بعض زملائهم المفصولين إلى مناصبهم، فاجأ العمال المنظمين والثوريين على حد سواء. قام 30.000 عامل في هذا المصنع العملاق بتشكيل لجنة إضراب، وخرجوا إلى الشوارع وناشدوا العمال الآخرين من أجل الدعم. في 22 فبراير ردت إدارة بوتيلوف بإغلاق المصنع. تبين لاحقا أن هذا القرار كان خطأً كبيرا، حيث خرج آلاف العمال الغاضبين إلى الشوارع، في الوقت الذي كانت فيه العديد من نساء الطبقة العاملة يصطفن في الشوارع المتجمدة للحصول على حصص ضئيلة من الخبز. اتضح أن هذا المزيج أكثر انفجارا من تلك القذائف التي ينتجها مصنع بوتيلوف. وبالصدفة كان اليوم التالي، 23 فبراير، هو اليوم الأممي للنساء. أعطى هذا زخما إضافيا للحركة الجماهيرية. إن السرعة الهائلة التي تحركت بها النساء والشباب، الذين كانوا في السابق فئات متخلفة وغير منظمة، فاجأت حتى المناضلين. وكما قال المؤرخ السوفياتي، بيردزالوف، فإن شباب الطبقة العاملة “ساروا في الصفوف الأولى للمتظاهرين وكانوا حاضرين في الاجتماعات وشاركوا في الاشتباكات مع الشرطة، [و]… قاموا بدور كشافي الثورة إذ كانوا أول من يخبر العمال [الكبار] عن مكان تجمع قوات الجيش والشرطة، إلخ”[1].

في 24 فبراير، انخرط 200.000 عامل -أكثر من نصف عمال بتروغراد- في الإضراب. كانت هناك لقاءات وتظاهرات ضخمة في المصانع، حيث بدأ العمال يتخلصون من خوفهم القديم ويقفون في مواجهة مضطهِديهم. لقد بدأت الثورة. وبمجرد أن بدأت، اكتسبت الحركة زخما خاصا بها، واجتاحت كل ما يوجد أمامها. رافقت الإضرابات مظاهرات حاشدة انتشرت كالنار في الهشيم من منطقة فيبورغ إلى المناطق الصناعية الأخرى. وكنست حشود المتظاهرين قوات الشرطة والجيش للوصول إلى وسط المدينة، حتى عبروا نهر نيفا المتجمد، وهم يهتفون: “الخبز!”، “السلام!” و”ليسقط الاستبداد!”.

في يوم الخميس 23 فبراير، عقدت اجتماعات للاحتجاج على الحرب وارتفاع تكاليف المعيشة والظروف السيئة التي تعيشها العاملات. وهذا بدوره تطور إلى موجة إضرابات جديدة. لقد لعبت النساء دورا رئيسيا في الحركة، فقد سرن إلى المصانع وطالبن العمال بأن يوقفوا العمل ويخرجوا. تلت ذلك مظاهرات حاشدة في الشوارع. وظهرت الأعلام واللافتات بشعارات ثورية: “تسقط الحرب!”، “يسقط الجوع!”، “عاشت الثورة!”. وفجأة ظهر المحرضون في الشوارع. كثير منهم كانوا بلاشفة، لكن آخرين كانوا عمالا عاديين، رجالا ونساء، اكتشفوا فجأة، وبعد سنوات من الصمت القسري، أن لديهم لسانا ينطق وعقلا يفكر.

في صباح ذلك اليوم، أطل فيودور فيودوروفيتش إيلين (راسكولنيكوف)، وهو بحار يبلغ من العمر 25 عاما، من النافذة وتساءل: “اليوم هو يوم النساء. هل سيحدث شيء ما في الشوارع اليوم؟”. وبالفعل كان هناك شيء يحدث، فقد كان 128.000 عامل في إضراب. وكانت المدينة كلها تغلي بالحياة.

«لقد تطورت الأحداث بحيث أن يوم النساء صادف اليوم الأول للثورة. كانت النساء العاملات، اللائي دفعهن اليأس بسبب ظروفهن القاسية وعذابات الجوع، أول من خرج إلى الشوارع للمطالبة بـ “الخبز والحرية والسلام”.

في ذلك اليوم، عندما كنا محجوزين في ثكناتنا، تمكنا من أن نرى من النوافذ مشهدا غير عادي. كانت حافلات النقل العام متوقفة عن العمل، مما يعني أن الشوارع كانت فارغة وهادئة بشكل غير معهود. لكن في زاوية شارعي بولشوي وغافانسكايا، استمرت مجموعات من النساء العاملات في التجمع. حاول رجال الشرطة تفريقهن، وكانوا يدفعونهن بقسوة باستعمال خيولهم ويضربوهن بالطرف المسطح لسيوفهم. عندما يصعد الحرس القيصري الأوبريشنيكي[2] إلى الرصيف، كانت المتظاهرات يتفرقن مؤقتا، دون أن يفقدن رباطة جأشهن، وهن يوجهن للقوات اللعنات والتهديد؛ لكن بمجرد عودة رجال الشرطة إلى الطريق، كان الحشد يتحول مرة أخرى إلى كتلة صلبة. كان هناك بعض الرجال، لكن الغالبية العظمى كانت تتألف من نساء عاملات وزوجات عمال»[3].

في 25 فبراير، التقى ما بين 30 و35 من قادة العمال في مقر اتحاد بتروغراد لتعاونيات العمال من أجل إنشاء مجلس سوفييت. وعلى الرغم من أن نصف هؤلاء العمال تعرضوا للاعتقال في نفس الليلة، فإنه بعد يومين فقط، عندما ارتفع مد الحركة، أعلن عدد منهم أنفسهم باعتبارهم اللجنة التنفيذية المؤقتة لسوفييت بتروغراد. تم انتخاب عضو الدوما المنشفي تشخيدزه رئيسا للجنة، رغم أنه لم يكن يمثل أي مصنع. لكن وعلى كل حال فإن أغلبية الـ 150 شخصا الذين حضروا الجلسة الافتتاحية للسوفييت قدموا أوراق اعتماد مشكوك فيها. وقد حددت اللجنة أهدافها بأنها “تنظيم قوات الشعب والنضال من أجل تعزيز الحرية السياسية والحكومة الشعبية”. وفي مساء اليوم نفسه أصدر نيكولا أمرا قاطعا لخابالوف يأمره بـ”وضع حد للاضطرابات في العاصمة بحلول يوم غد”. في المساء فتحت القوات النار على المحتجين. وذكر تقرير للشرطة أنه «وحده إطلاق النار مباشرة على قلب الحشود، هو ما مكن من تفريق الغوغاء، الذين كانوا في معظم الأحيان يختبئون في أفنية المنازل القريبة، ثم يعودون إلى الشوارع عندما يتوقف إطلاق النيران». عندما تتخلص الجماهير من خوفها من الموت، تكون اللعبة قد انتهت. لكن وحتى تلك اللحظة بقي قادة البلاشفة في بتروغراد عاجزين عن فهم الطبيعة الحقيقية للوضع. قال عضو اللجنة البلشفية في منطقة فيبورغ، ف. كايوروف، “الشيء الوحيد الأكيد هو أن التمرد يخبو”[4]. لكن في الواقع كانت تلك مجرد البداية.

استمرت بتروغراد لبضعة أيام (من 25 إلى 27 فبراير) في قبضة إضراب عام. يطرح الإضراب العام مسألة السلطة على جدول الأعمال، لكنه في حد ذاته لا يمكنه حلها. إنه يطرح السؤال التالي: من يحكم؟ من هو رب المنزل؟ والشيء الحتمي هو أن الإجابة النهائية تحسم بالقوة. النظام الذي كان قد بدأ يتعافى من الصدمة الأولى، صار ينظم رد الفعل. أصدر القيصر شخصيا الأمر التالي: «أطلب منكم أن تضعوا حدا للاضطراب في العاصمة بحلول يوم غد ودون تأخير». وقد تلقى الجنود والشرطة الأمر مباشرة من نيكولا الدموي بإطلاق النار على المتظاهرين. في 26 فبراير بدأ إطلاق النار. معظم الجنود أطلقوا النار في الهواء، لكن الشرطة، التي هي دائما أكثر تخلفا ورجعية من الجنود، أطلقت النار على الحشود. سقط الكثير من القتلى والجرحى. وقد كانت هذه نقطة تحول حاسمة في وعي الجنود، ففي ذلك اليوم بالذات قام جنود فوج بافلوفسك، الذين تلقوا الأمر بإطلاق النار على العمال، بإطلاق النار على الشرطة عوض ذلك. على الورق كانت لدى النظام قوى وافرة تحت تصرفه، لكن في لحظة الحقيقة تبخرت تلك القوى. ذهبت الدعوات اليائسة بإرسال التعزيزات أدراج الرياح. وفي هذا السياق يستشهد تروتسكي باستبيان أرسله الجنرال إيفانوف إلى الجنرال خابالوف، جاء فيه:

«سؤال إيفانوف: كم تحت تصرفك من القوات المنضبطة وكم هو عدد الجنود الذين يسيئون التصرف؟

جواب خابالوف: لدي تحت تصرفي أربع كتائب من الحرس، وخمسة أسراب من سلاح الفرسان والقوزاق، وفريقين من المدفعية؛ أما بقية القوات فقد انتقلت إلى صفوف الثوار، أو أنها، بالاتفاق معهم، بقيت على الحياد. والجنود يتجولون في المدن منفردين أو في فرق ويعملون على تجريد الضباط من سلاحهم.

س: ما هي محطات السكك الحديدية التي تخضع للحراسة؟

ج: جميع المحطات هي في أيدي الثوار وهم يحرسونها بعناية.

س: أي جزء من المدينة يخضع للنظام؟

ج: المدينة كلها في أيدي الثوار. الهاتف لا يعمل، ولا يوجد اتصال بين مختلف أطراف المدينة.

س: ما هي السلطات التي تحكم مختلف أطراف المدينة؟

ج: لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال.

س: هل جميع الوزارات تعمل بشكل صحيح؟

ج: لقد تم اعتقال الوزراء من طرف الثوار.

س: ما هي قوات الشرطة التي توجد تحت تصرفكم في الوقت الحاضر؟

ج: لا شيء على الإطلاق.

س: ما هي المؤسسات التقنية والتموينية التابعة لوزارة الحرب التي تسيطرون عليها الآن؟

ج: ليس لدي شيء.

س: ما هي كمية المؤونة التي هي تحت تصرفكم؟

ج: لا توجد تحت تصرفي أي مؤونة. يوم 05 فبراير كان في المدينة 5.600.000 رطل من الدقيق في المخازن.

س: هل سقطت العديد من الأسلحة والمدفعية والمخازن العسكرية في أيدي المتمردين؟

ج: كل المدفعية في أيدي الثوار.

س: ما هي القوات ومن هم الضباط الذين ما زالوا تحت سيطرتك؟

ج: ما زال رئيس قائد المنطقة تحت إمرتي. لكن لم تعد لي أي اتصالات مع بقية الإدارات المحلية الأخرى»[5].

كان هناك تآخي واسع النطاق بين القوات والمضربين. اتجه العمال إلى الثكنات لمناشدة الدعم من إخوانهم بالزي العسكري. وكان المقر الرئيسي للبلاشفة يشهد مناقشات مستمرة وغالبا حادة حول التكتيكات، في ظل وضع كان يتغير ليس كل يوم بل كل ساعة. عارض شليابنيكوف إنشاء فصائل مسلحة، وركز على ضرورة كسب قوات الجيش. بينما جادل تشوغورين وآخرون بأن كلتا المهمتين ضروريتان، الخ. كان الوضع يتحرك بشكل أسرع بكثير من مناقشات القادة البلاشفة في بتروغراد. كان العمال قد بدأوا في الواقع يسيطرون على المدينة، وعوضوا النقص في الأسلحة والتدريب العسكري بالأعمال البطولية والأعداد الكبيرة.

بعد 27 فبراير صارت معظم أنحاء العاصمة في أيدي العمال والجنود، بما في ذلك الجسور ومخازن الأسلحة ومحطات السكك الحديدية والتلغراف ومكتب البريد. فعندما دقت ساعة الحقيقة تبخرت في الهواء كل القوة الجبارة التي كان النظام يمتلكها على الورق. وبحلول ليلة الثامن والعشرين، وجد خابالوف نفسه بدون أي قوات تحت تصرفه، صار جنرالا بدون جيش. وتم نقل وزراء حكومة القيصر الأخيرة إلى قلعة بطرس وبولس، باعتبارهم أسرى الثورة! وبالاستناد إلى تجربة عام 1905، قام العمال بإنشاء السوفييتات لتولي إدارة المجتمع. لقد صارت السلطة في أيدي الطبقة العاملة والجنود.

كان هناك شيء واحد واضح تماما: وهو أن الإطاحة بالنظام القيصري كان بفضل الطبقة العاملة، التي قادت خلفها الفلاحين بالزي العسكري. وقد أنجزت الثورة، في الواقع، في مدينة واحدة فقط -بتروغراد- والتي كانت لا تمثل سوى 1,75% من سكان روسيا. نرى هنا، بأكثر الصور وضوحا، الثقل الحاسم للبروليتاريا مقارنة بالفلاحين، وللمدينة مقارنة مع القرية. لقد كانت ثورة فبراير سلمية نسبيا لأنه لم تكن هناك أي قوة جادة مستعدة للدفاع عن النظام القديم. وبمجرد أن بدأت البروليتاريا في التحرك، لم يكن هناك شيء قادر على إيقافها. وعن ثورة فبراير كتب تروتسكي:

«لن يكون من المبالغة القول إن بتروغراد هي من حققت ثورة فبراير. بينما بقية البلاد التحقت بها. لم تكن هناك أي مواجهات في أي مكان إلا في بتروغراد. لم يكن من الممكن العثور في أي مكان في البلد على أي مجموعة من السكان أو أي أحزاب أو مؤسسات أو وحدات عسكرية مستعدة للقتال من أجل النظام القديم. وهذا يوضح تفاهة مزاعم الرجعيين، التي ظهرت لاحقا، حول أنه لو كانت هناك قوات فرسان في حامية بيترسبورغ، أو لو أن إيفانوف قام بإحضار لواء موثوق فيه من الجبهة، لكان مصير النظام الملكي مختلفا. لم يكن لا في الجبهة ولا في الخلف أي لواء أو كتيبة على استعداد لخوض المعركة من أجل نيكولا الثاني»[6].

لقد صارت السلطة الآن في يد العمال، لكنهم، كما أوضح لينين لاحقا، لم يكونوا منظمين بما فيه الكفاية ولا واعيين بما فيه الكفاية لإنجاز الثورة حتى النهاية. كانت تلك هي المفارقة الرئيسية لثورة فبراير. كانت الطبقة العاملة هي التي قامت بالثورة، وقادت خلفها الفلاحين بالزي العسكري الرمادي. لماذا كانت إذن ثورة برجوازية؟ صحيح أن مضمونها الموضوعي، من حيث برنامجها ومطالبها المباشرة، كان برجوازيا ديموقراطيا. لكن ما هو الدور الذي لعبته البرجوازية فيها؟ لقد لعبت دورا معاديا للثورة، ولم تفشل في مساعيها الرجعية إلا لأن السياسيين الليبراليين، مثلهم مثل قوى الاستبداد نفسها، افتقروا إلى الوسائل المادية لوضعها موضع التنفيذ. وبعد إدراكهم لاستحالة إغراق الثورة في الدم، سارعوا إلى فبركة “حكومة مؤقتة” لمحاولة السيطرة على الحركة وإخراجها عن مسارها. انبثقت الحكومة المؤقتة عن اللجنة المؤقتة لمجلس الدوما التي أطلقت على نفسها لقب: “لجنة إعادة النظام والعلاقات مع المؤسسات والشخصيات العامة”. ترأس اللجنة رئيس مجلس الدوما السابق، ميخائيل رودزيانكو، الذي أعترف بأنه استقبل تنازل القيصر بـ “حزن لا يوصف”. ومن أعضائها البارزين أيضا كان هناك شولغين، عضو الكتلة التقدمية، الذي تمنى لو أتيحت له فرصة الحصول على البنادق “من أجل تصفية الحساب مع هؤلاء الغوغاء”. وقد فضح شولغين، عن غير قصد، الأسباب الحقيقية وراء تشكيل الحكومة المؤقتة، عندما قال: «إذا لم نأخذ السلطة، فسوف يأخذها الآخرون بدلا منا، سيأخذها هؤلاء الرعاع الذين قد انتخبوا بالفعل جميع أنواع الأوغاد في المصانع».

كان يقصد بـ “الأوغاد في المصانع” أعضاء مجالس العمال (“السوفييتات”)، أي لجان النضال التي كانت ذات قاعدة عريضة، وكانت منتخبة ديمقراطياً في أماكن العمل، والتي ظهرت بسرعة على الساحة. لقد بدأ العمال من النقطة التي توقفوا عندها في عام 1906. وخلال مسار الثورة أعادوا اكتشاف كل التقاليد القديمة وأنشأوا مجالس منتخبة في كل المصانع. في الواقع لقد كانت السلطة في أيديهم بالفعل منذ فبراير. لكن المشكلة كانت هي عدم وجود حزب وقيادة يقفان إلى جانب الثورة. القادة الإصلاحيون، الذين وجدوا أنفسهم في الخط الأمامي عند بداية الثورة، والذين شكلوا الجزء الأكبر من اللجنة التنفيذية السوفياتية، لم يكن لديهم أي منظور للاستيلاء على السلطة، بل كانوا مستعجلين لتسليم السلطة للبرجوازية، على الرغم من أن هذه الأخيرة لم تلعب أي دور في الثورة وكانت خائفة منها.

لم تكن لدى الليبراليين قاعدة دعم جماهيرية حقيقية داخل المجتمع. وقد كان السبب الوحيد لقدرة الحكومة المؤقتة على البقاء هو الدعم الذي تلقته من زعماء المناشفة والاشتراكيين الثوريين. أدرك ممثلو الشركات الكبرى أنهم لا يستطيعون الصمود إلا من خلال الاعتماد على دعم القادة السوفييت. خاصة وأن هذا سيكون، على كل حال، مجرد إجراء مؤقت. فالجماهير سوف تتعب قريبا من هذا الجنون، وسوف تموت الحركة تدريجيا، ومن ثم يمكنهم ببساطة توجيه رصاصة الرحمة لهؤلاء “الاشتراكيين”. لكنهم في الوقت الحالي كانوا شرا لا بد منه، لتفادي الأسوأ. لذلك فإن ممثلي الرأسماليين ابتلعوا سخطهم وقاموا بالمبادرات اللازمة. عقد القادة الإصلاحيون اجتماعا عاجلا في قصر توريد مع أعضاء مجموعة العمل التابعة للجان الصناعة الحربية ونواب الدوما المناشفة ومختلف أشكال الصحفيين والمثقفين من المعسكر المنشفي. وسرعان ما خرج المناشفة بموقف التعاون الطبقي. كان ذلك متوقعا بالتأكيد لأنه كان النتيجة المنطقية لكل مسار تطورهم السابق. نشرت صحيفتهم الرسمية بيانا في 01 مارس يدعو إلى تشكيل حكومة مؤقتة “توفر الظروف اللازمة لبناء روسيا حرة جديدة”. كان العمال قد ضحوا بدمائهم لأجل الاستيلاء على السلطة، في حين كانت البرجوازية في الهامش تراقب برعب. لكن وبالرغم من ذلك فإن المناشفة -الممثلين المنتخبين لهؤلاء “الأوغاد في المصانع”- أرادوا تسليم السلطة للبرجوازية!

لم يكن العمال والجنود يثقون في البرجوازية، لكنهم كانوا يثقون في قادتهم، وخاصة أولئك الذين كانت لديهم صورة القادة “اليساريين” الأكثر جذرية، مثل كيرنسكي. كان ذلك الوصولي المنحدر من الطبقة المتوسطة بخطابه القانوني وميله إلى الديماغوجية المسرحية، يجسد بشكل مثالي المرحلة الأولى لاستيقاظ الجماهير بما تميزت به من تشوش وارتباك وسذاجة. سمح السوفيات لكيرنسكي بالمشاركة في الحكومة المؤقتة. وهنا تكمن المفارقة الرئيسية لثورة فبراير وهي أنها جلبت إلى السلطة أولئك الذين لم يلعبوا أي دور على الإطلاق في نجاحها والذين كانوا يخشونها مثلما يخشى الشيطان الماء المقدس، أي الكاديت وحلفاؤهم الأكتوبريين. تم تشكيل الحكومة المؤقتة في 02 مارس، وكانت مكونة أساسا من كبار الملاكين العقاريين والرأسماليين. تم تعيين الأمير لفوف رئيسا لمجلس الوزراء. وكان رئيس حزب الكاديت، ميليوكوف، هو وزير الخارجية. كان وزير المالية هو بارون صناعة السكر والملاك العقاري الثري، تيريشنكو. كانت وزارة التجارة والصناعة في يد صاحب مصنع النسيج، كونوفالوف. وذهبت وزارة الحرب والبحرية إلى الأوكتوبري غوتشكوف. بينما أعطيت وزارة الزراعة إلى الكاديتي شينغاريف. كانت هذه العصابة الرجعية من المحتالين، هي من سلم لهم السوفييت زمام الحكم في روسيا!

لم يكن لدى قادة السوفييت البرجوازيين الصغار الثقة في قدرة الجماهير على إنجاز الثورة. وبسبب اقتناعهم الراسخ بأن البرجوازية هي الطبقة الوحيدة المؤهلة للحكم، فقد كانوا حريصين على تسليم تلك السلطة، التي انتزعها العمال والجنود، إلى القسم “المستنير” من الرأسماليين في أقرب فرصة ممكنة. وقد سعى المناشفة والاشتراكيون الثوريون بكل جهدهم لإقناع الجماهير بأن الحكم دون الرأسماليين كان يعني “تدمير ثورة الشعب”[7](!). لقد استمروا في تكرار أن الطبقة العاملة أضعف من أن تتمكن من إنجاز الثورة وأنه عليها ألا “تعزل” نفسها. وقد أوضح بوتريسوف الموقف المنشفي بشكل كامل عندما قال: «البرجوازية هي (الطبقة) الأكثر استعدادا اجتماعيا ونفسيا لحل المشكلات الوطنية، خلال مرحلة الثورة البرجوازية». وفي 07 مارس، كتبت جريدة المناشفة في بتروغراد، رابوتشايا غازيتا: «يا أعضاء الحكومة المؤقتة! إن البروليتاريا والجيش ينتظرون أوامركم لتوطيد الثورة وجعل روسيا ديمقراطية»[8].

لم تكن هذه الأفكار تتعارض مع ما كان الزعماء البرجوازيون في الحكومة المؤقتة يفكرون فيه. لقد كانت غريزتهم تحثهم، كما رأينا، إلى اللجوء إلى القمع، لكن ذلك كان مستحيلا في ظل الظروف القائمة، فاضطروا إلى المناورة واللعب على الوقت. لذلك “أعطوا” للجماهير ما كان العمال والجنود قد حققوه بالفعل في خضم النضال. كان الهدف الوحيد لليبراليين هو وقف الثورة عن طريق إجراء تغييرات شكلية من فوق تحافظ على أكبر قدر ممكن من النظام القديم. كان النظام القديم، رغم أنه تقوض وتداعى بشدة، ما يزال قائما وذلك بفعل استمرار القوة الاقتصادية لكبار الملاكين العقاريين وأصحاب الأبناك والرأسماليين، والجهاز البيروقراطي الضخم، وقيادة الجيش والدوما، والنظام الملكي. كانت البرجوازية الليبرالية مرعوبة للغاية من الثورة إلى درجة أنها تشبثت مثل غريق بالنظام الملكي باعتباره أقوى حصن للملكية الخاصة والنظام. ومن أجل الحفاظ على النظام الملكي، لجأت الحكومة المؤقتة إلى المناورة من أجل استبدال نيكولا الثاني بابنه، تحت وصاية شقيقه الأمير ميخائيل، على أمل تعويض أحد أعضاء آل رومانوف بآخر. في هذه الكوميديا ​​البشعة من الأخطاء، قام العمال، الذين قدموا دماءهم للإطاحة بآل رومانوف، بتسليم السلطة لزعمائهم، الذين سلموها بدورهم إلى الليبراليين البرجوازيين، الذين قاموا بدورهم بإعادتها إلى آل رومانوف!

لم يكن ذلك بسبب العمال والجنود، وخاصة النشطاء منهم، الذين تميز موقفهم بعدم الثقة تجاه السياسيين البرجوازيين في الحكومة المؤقتة. لكنهم وثقوا في قادتهم، المناشفة والاشتراكيين الثوريين، هؤلاء “الاشتراكيين المعتدلين” الذين شكلوا غالبية اللجنة التنفيذية السوفياتية والذين استمروا يقولون لهم إنه عليهم التحلي بالصبر، وإن المهمة الأولى هي توطيد الديمقراطية، والاستعداد لعقد الجمعية التأسيسية، وهلم جرا. كانت الجماهير تنصت وتفكر. وكانوا يقولون لأنفسهم ربما يجب علينا أن ننتظر لنرى؛ إن قادتنا يعرفون أفضل منا. ومع ذلك فإن الشعور بعدم الثقة كان ينمو أكثر فأكثر مع مرور كل يوم.

آلان وودز

ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي

عنوان النص بالإنجليزية:

Bolshevism: The Road to Revolution

هوامش:

[1]: J.L.H. Keep, The Rise of the Social Democracy in Russia, p. 59.

[2]: الأوبريشنيكي هي قوات الأمن الخاصة التي أسسها إيفان الرهيب، حاكم موسكو الدموي خلال القرن 15، وكانت مشهورة بجرائمها الدموية.

[3]: F.F. Raskolnikov, Kronstadt and Petrograd in 1917, p. 1.

[4]: J.L.H. Keep, The Rise of the Social Democracy in Russia, p. 60.

[5]: L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, pp. 105-6.

[6]: Ibid., p. 158.

[7]: Izvestiya 2/3/17

[8]: M. Liebman, Leninism Under Lenin, p. 121 and p. 120.