2019: عام جديد، أزمة جديدة

يواجه العالم، ونحن ندخل العام الجديد، نقطة تحول حاسمة. لقد وصلت أزمة الرأسمالية إلى مستوى جديد يهدد بالإطاحة بكل النظام العالمي الذي أقيم بجهد جهيد بعد الحرب العالمية الثانية. وبعد مرور 10 سنوات على الانهيار المالي الذي حدث عام 2008، ما زالت البرجوازية عاجزة عن إيجاد أي حل للأزمة الاقتصادية.

[Source]

لم تقدم كل تضحيات وآلام السنوات العشر الأخيرة أي حل للأزمة، بل زادت من معاناة الجماهير وفقرها ويأسها، في حين مكنت أقلية ضئيلة من الطفيليات من تحقيق ثروات فاحشة. لكن السياسة في آخر التحليل هي تكثيف للاقتصاد. وقبل عقد من الزمن توقعنا أن جميع محاولات الحكومات لاستعادة التوازن الاقتصادي لن تؤدي إلا إلى تدمير التوازن الاجتماعي والسياسي، وهذا ما نراه الآن يحدث في جميع البلدان، الواحد منها تلو الآخر.

ففي أوروبا، لدينا أزمة البريكست، والتي هي في حد ذاتها عنصر مزعزع للاستقرار. لقد رمت بريطانيا في أزمة عميقة لا تظهر لها أية نهاية واضحة في الأفق. لقد كانت بريطانيا منذ فترة ليست ببعيدة البلد الأكثر استقرارا من الناحية السياسية في أوروبا، أما الآن فقد صارت واحدة من أكثر البلدان اضطرابا.

سُئل المعلق السياسي المحافظ المعروف، ماثيو باريس، قبل بضعة أسابيع على قناة نيوز 4، عما إذا كان يعتقد أن الأزمة الحالية هي الأخطر في تاريخ بريطانيا. فأجاب قائلا:

«أستطيع أن أتذكر أزمة السويس في عام 1956. لقد كانت تلك أزمة خطيرة للغاية، كما أنني عشت منذ ذلك الحين العديد من الأزمات الأخرى. إلا أنه في الماضي، وبغض النظر عن مدى عمق الأزمة، كان لدي دائما إحساس بأن شخص ما في مكان ما، لديه خطة، أو فكرة واضحة عن كيفية الخروج من الأزمة. لكن هذا الاحساس لم يعد لدي اليوم».

في غضون ما يزيد قليلا على أسبوع، ستعرض رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، اتفاقها سيء الذكر أمام البرلمان البريطاني. إن فرصة نجاحها تشبه فرصة كرة الثلج في الجحيم. لكن ماذا سيحدث بعد أن فشل الاتفاق الذي تمت صياغته مع الاتحاد الأوروبي بجهد كبير؟ إن احتمال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بدون صفقة هو وصفة نهائية لاندلاع فوضى اقتصادية واجتماعية وسياسية غير مسبوقة - ليس في بريطانيا فقط، بل في جميع أنحاء أوروبا.

إن مجرد التفكير في مثل هذا السيناريو تعبير عن الإفلاس الكامل للنظام السياسي البريطاني. لكن الساعة تدق، وبريطانيا لم يعد لها ما يكفي من الوقت. وأيا كان البديل المقترح فإنه سيكون كارثيا. السؤال الوحيد هو حجم الكارثة. وفي جميع الحالات ستواجه بريطانيا مرحلة عاصفة جدا.

لكن أزمة أوروبا لا تنتهي هنا. ففي ألمانيا، التي كانت طيلة عقود القوة المحركة الحقيقية للاقتصاد الأوروبي، أصبحت هيمنة الحزبين السياسيين الرئيسيين - الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي الديمقراطي- على وشك الانهيار. وقد كان تخلي أنجيلا ميركل عن منصبها في رئاسة حزب الديمقراطيين المسيحيين مجرد مظهر للتوترات السياسية الكامنة التي هي جزء من الاستقطاب الاجتماعي المتصاعد.

ويمكن ملاحظة نفس الظاهرة في العديد من البلدان الأخرى. في فرنسا تم الترويج لفوز إيمانويل ماكرون الانتخابي بأنه نصر عظيم للتيار السياسي الوسطي. فمثلما حدث في قصة القديس جورج مع التنين، نزل ماكرون بأعجوبة من السماء لقتل تنين التطرفين اليساري واليميني. لكن لم يمر وقت طويل قبل أن يغرق الرجل، الذي كان من المفترض أن يمشي فوق الماء، بفعل أمواج الصراع الطبقي الهادرة.

كل أوهام المعلقين السياسيين، الذين رأوا في هذا النرجسي السياسي الصغير منقذا ليس لفرنسا فحسب، بل لأوروبا كلها، تبخرت كقطرة ماء على موقد ساخن. لقد انهارت شعبية ماكرون بسرعة أكبر وبشكل أكثر كارثية من انهيار شعبية سلفه، فرانسوا هولاند. فاستطلاعات الرأي التي منحته أكثر من 70% من التأييد وقت انتخابه، أعطته أقل من 20% في شهر دجنبر الماضي.

لقد كان هذا التحول الدرامي نتيجة مباشرة لشيء لم يكن من المفترض حدوثه، أي: العمل الثوري المباشر للجماهير. ففي غضون أسابيع نجح العمال والشباب في فرنسا في هدم الصورة الكاذبة لقدسية الرئيس الفرنسي، والذي ركع أمامهم يرجوهم أن يسمحوا له بالبقاء في السلطة. فإذا بالرجل الذي تفاخر بأنه لن يستسلم أبداً لضغط "الشارع" يضطر إلى القيام بانعطافة مهينة. لكن هذا في النهاية لن يكون كافيا لإنقاذه.

فرنسا وألمانيا

لعقود من الزمن كان مصير أوروبا يحدده بلدان هما: فرنسا وألمانيا. في البداية أرادت الطبقة السائدة الفرنسية، مدفوعة بإحساسها الذاتي بالأهمية، أن تربط ألمانيا إلى جانبها لكي توفر الأساس الاقتصادي لأوروبا موحدة، في حين توفر فرنسا القيادة السياسية. لكن تلك المحاولة باءت بالفشل! ففي النهاية القوة الاقتصادية هي التي تقرر السياسة، وليس العكس.

وفي أيامنا هذه، من الواضح للجميع أن ألمانيا، وليس فرنسا، هي التي تقرر في جميع المسائل الأساسية في أوروبا. إن طموح ماكرون بأنه سيُملي على برلين (وحتى واشنطن!) ما يجب فعله سرعان ما اتضح بأنه مجرد وهم سخيف. لن تؤدي أزمة ميركل إلى زيادة قوة وسلطة الرئيس الفرنسي، الذي يجد نفسه الآن في نفس الموقف الذي لا يحسد عليه لذلك الإمبراطور الذي عرض عورته وهو يظن أنه يرتدي لباسا جديدا. إن عريه السياسي واضح للجميع حتى عندما يختبئ خلف مكتبه الفاخر.

لا يرجع السبب في الانقسام المتنامي بين فرنسا وألمانيا إلى مبادئ دينية أو أخلاقية أو فلسفية أو إنسانية، بل إلى المال الذي يشكل قلب وروح المجتمع الرأسمالي وقوته المحركة الحقيقية. وفي ظل ظروف الأزمة الرأسمالية لا يمكن لذلك الانقسام أن يشفى. إنه يهدد بإثارة أزمة وجودية في قلب الاتحاد الأوروبي.

يظهر ماكرون تعاطفا مع مشاكل إيطاليا وبقية بلدان البحر المتوسط الأخرى التي غرقت في الديون خلال السنوات الأخيرة. وبينما يلوح بعلم التضامن الأوروبي، يناشد الاتحاد الأوروبي بأن يظهر نوعا من النزعة الإنسانية والكرم. إذ بعد كل شيء أليس ربنا نفسه قد قال: "وأغفر لنا ديوننا"؟

من الحقائق المعروفة جيداً أنه لا توجد أية متعة في الحياة أحلى من متعة إنفاق أموال الآخرين. وعندما ينادي ماكرون بمغفرة الديون، فإنه يدرك جيداً أن أولئك الذين يجب أن يغفروا ليسوا في باريس، بل في برلين. لكن هؤلاء الذين يسيرون البوندسبانك [البنك المركزي الألماني] ليسوا مستعدين لإسقاط الديون، أو أي شيء آخر، وهو ما يمكن للشعب اليوناني أن يشهد به.

أما في بلده، فإن إيمانويل ماكرون، رئيس الأثرياء، يتوق إلى تنفيذ سياسة اقتطاعات عميقة ضد العمال وفي نفس الوقت تخفيف الضرائب عن كاهل الأغنياء. إلا أن استسلام ماكرون أمام أصحاب السترات الصفراء، الذين وعدهم بتقديم حزمة إصلاحات بقيمة 10 مليارات يورو (11,4 مليار دولار)، يعني أن عجز الميزانية في فرنسا سيتجاوز، مثله مثل إيطاليا، الحدود المسموح بها في منطقة اليورو. وهذه الحقيقة تشرح إلى حد ما سبب اختلاف المواقف بين حكام فرنسا وألمانيا.

تتظافر جميع العوامل لتسريع قوى الطرد المركزي، مما يزيد من حدة التناقضات والتوترات التي جاء الاتحاد الأوروبي لمنعها. ثم برزت أزمة تدفق اللاجئين لإضافة الزيت على اللهب، الشيء الذي أدى بدوره إلى خلق خطوط صدع جديدة بين ألمانيا وبين بلدان أوروبا الشرقية التي تدور في فلكها.

لقد دخلت بولندا والمجر في مواجهة مباشرة مع الاتحاد الأوروبي بشأن مسألة الهجرة، مدعومتان في ذلك من قبل الحكومة اليمينية في النمسا. أما في ألمانيا فإن حزب البديل لأجل ألمانيا الرجعي المناهض للهجرة قد صار يكسب المزيد من القوة، خاصة في أربع ولايات في شرق ألمانيا.

وبالتالي فإن الوضع ينذر باندلاع أزمة سياسية كبيرة في أوروبا، وليست أزمة البريكسيت سوى بداية لها. لقد غرقت الرؤية الفيدرالية لأوروبا عميقا. وبدل أن يكون الاتحاد الأوروبي في طريقه نحو وحدة أكبر، فإنه صار يتفتت أمام أعيننا.

خطوط صدع جديدة تظهر

إن التوتر السياسي الموجود بين فرنسا وألمانيا مجرد تعبير سطحي عن الانقسامات الاقتصادية العميقة بين بلدان شمال أوروبا وجنوبها. لقد ظهر في الآونة الأخيرة تكتل جديد، يمثل خط صدع آخر إلى جانب العديد من الشقوق الأخرى التي تهدد الاتحاد الأوروبي بالتفكك. وقد أطلق عليه البعض اسم الرابطة الهنسياتية الجديدة، في إشارة إلى ذلك التكتل القوي الذي تشكل خلال العصور الوسطى من بلدان بحر البلطيق التجارية والذي هيمن على جزء كبير من الحياة الاقتصادية الأوروبية آنذاك.

لقد انفتحت فجوة بين البلدان الأكثر فقرا في جنوب أوروبا وبين الاقتصاديات الأكثر ازدهارا في الشمال. تعتبر الدنمارك والسويد وفنلندا واستونيا ولاتفيا وليتوانيا وهولندا وأيرلندا بلدانا صغيرة الحجم نسبيا داخل المجال الأوروبي، إلا أنها تجمعت معا لمقاومة مطالب بلدان جنوب أوروبا بشأن استعمال ميزانية أوروبا لتغطية عجزها الضخم.

بعد سنوات من التقشف والاقتطاعات والمعاناة الفظيعة، تحولت اليونان إلى خراب بسبب إملاءات برلين وبروكسل. لم يتم حل أي شيء، وها هي الأزمة قد انتشرت الآن إلى إيطاليا، حيث يصل العجز المتراكم إلى 130% من الناتج المحلي الإجمالي. لقد صادق التحالف الحكومي، المناهض للاتحاد الأوروبي، في روما على ميزانية تخالف الشروط التي تفرضها بروكسل، مما تسبب في مواجهة مفتوحة بينهما. لقد تم ستر التصدعات في الوقت الحاضر، لكن الأزمة الإيطالية ما تزال قائمة وستكون لها آثار أكثر خطورة على الاتحاد الأوروبي من الأزمة اليونانية.

تعتبر اليونان اقتصادًا صغيرًا نسبيًا على هامش أوروبا. لكن إيطاليا، في المقابل، تعد ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو. كانت الحكومة الإيطالية تأمل في أن تتمكن من ضخ الأموال في اقتصادها مما يمكنها من تحقيق النمو مجددا. لكن إذا أجبرت المالية الإيطالية على دفع غرامات ضخمة، فإن ذلك يعني القضاء على أي تأثير ايجابي قد يكون لسياسة الإنفاق الإضافي.

وقد اضطر كل من لويجي دي مايو، زعيم حركة الخمس نجوم، وماتيو سالفيني، من رابطة الشمال، إلى الاستسلام. وفي النهاية تم توقيع اتفاق هش، ثم وافقت المفوضية الأوروبية على خطة تسوية.

تعهدت إيطاليا بخفض عجز ميزانيتها من 2,4% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 2%. كما وافقت اللجنة على مضض على أن يبقى العجز الهيكلي دون تغيير في العام المقبل. قال نائب رئيس المفوضية الأوروبية، فالديس دومبروفسكيس، إن: "الحل الموجود على الطاولة ليس مثاليًا"، وهو الشيء الواضح للجميع.

مكنت هذه الاتفاقية اللجنة من أن تتجنب اتخاذ إجراءات قانونية ضد إيطاليا - لكن "شريطة أن يتم تنفيذ تلك التدابير بالكامل". تشير هذه الجملة الاعتراضية إلى أن الصدام مع إيطاليا لم يتم استبعاده كليا، بل تم تأجيله فقط. ولا تقدم ميزانية العام المقبل أي حلول لمشاكل البلد على المدى البعيد.

لماذا وافقت المفوضية الأوروبية على صفقة غير مرضية؟ إن الجواب لا يوجد في الاقتصاد بل في السياسة. لقد سمحوا للتو للرئيس الفرنسي بتقديم ما يصل إلى 10 مليارات يورو من النفقات الإضافية لوقف تمرد السترات الصفراء. وهو ما يهدد برفع عجز ميزانية فرنسا في العام المقبل بشكل كبير عن حد 3% من الناتج المحلي الإجمالي التي تفرضها منطقة اليورو. وبالتالي فإنهم ليسوا في وضع يسمح لهم بممارسة ضغوط كبيرة على الإيطاليين، الذين يبلغ عجزهم المتوقع أقل من 3% من الناتج المحلي الإجمالي.

لكنه كانت هناك بوضوح اعتبارات أخرى أكثر جدية. ففي مقابلة مع صحيفة كورييري ديلا سيرا، قال رئيس الوزراء الإيطالي، جوزيبي كونتي، إنه ذكّر اللجنة بأن حكومته "تواجه واجب الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي في إيطاليا". لقد كان هذا تهديدا واضحا: إما أن تتوقفوا عن ممارسة الضغوط علينا، أو ستواجه إيطاليا انفجارا اجتماعيا ستكون له تداعيات خارج حدودنا. وهو التهديد الذي لم تستهن به بروكسل.

يمكن القول إن إيطاليا أكبر من أن تفشل، لكن من الواجب على المرء أن يضيف أيضا إنها أكبر من أن تنقذ. إذ لا يوجد ما يكفي من المال في البنك المركزي الألماني لإنقاذ الرأسمالية الإيطالية المريضة. وفصول هذه المسرحية لم تنته بعد.

أزمة عالمية

في عشرينات القرن العشرين تنبأ تروتسكي بأن مركز التاريخ العالمي، الذي كان قد انتقل بالفعل من البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأطلسي، سوف ينتقل في المستقبل من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ. إن هذا التنبؤ العبقري صار الآن حقيقة. تتخلف أوروبا عن أمريكا وعن الصين في سباق تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي. وفي عام 2019 من المحتمل أن تتجاوز الهند كلا من بريطانيا وفرنسا (على الأقل من حيث القيمة المطلقة) لتصبح خامس أكبر اقتصاد في العالم. إن مستقبل تاريخ العالم سيتحدد في النهاية، ليس في أوروبا، بل في المحيط الهادئ.

لكن هذه العملية نفسها مليئة بالتناقضات. يعتمد مصير الاقتصاد العالمي إلى حد كبير على الصين، التي كانت حتى وقت قريب واحدة من القوى المحركة الرئيسية. لكن الصين تعتمد إلى حد كبير على التصدير. تسبب انخفاض الطلب في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية في حدوث أزمة فائض إنتاج في الصلب وغيره من القطاعات الرئيسية في الاقتصاد الصيني. وقد تباطأ معدل نمو الصين إلى حوالي 6,5%.

وعلى الرغم من أن هذا الرقم قد يبدو مرتفعًا مقارنة بمعدلات النمو البائسة المسجلة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، فإنه بطيء بشكل مثير للقلق مقارنة بالماضي. من المعروف عموما أن أي معدل نمو في الصين أقل من 8% يعتبر معدلا منخفضا بشكل خطير، لأنه هو المعدل المطلوب لمواكبة النمو السكاني فيها.

من أجل تحفيز الصادرات لجأت الصين إلى إغراق السوق العالمية بكميات كبيرة من الفولاذ الرخيص. الشيء الذي أدى إلى أزمة صلب خطيرة في أوروبا، وارتفاع صرخات الاحتجاج من جانب الأمريكيين على وجه الخصوص. وهذا أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى اندلاع الحرب التجارية الحالية بين الولايات المتحدة والصين.

لقد برزت الصين الآن باعتبارها قوة عالمية تتحدى بشكل متزايد الولايات المتحدة. والحرب التجارية بين هذين البلدين هي دليل واضح على هذه الحقيقة.

ومع ذلك ما تزال الولايات المتحدة تحتفظ بمكانتها المهيمنة في الاقتصاد والسياسة العالميين. وقد أدى الجمع بين أسعار الفائدة المرتفعة وارتفاع قيمة الدولار إلى جذب كميات كبيرة من أموال المضاربات إلى الولايات المتحدة، مع ما يترتب على ذلك من آثار كارثية على ما يسمى بالأسواق الصاعدة في أمريكا اللاتينية وآسيا والشرق الأوسط، حيث وجدت اقتصاداتها الهشة نفسها تحت رحمة الدولار القوي، الذي يعتصرها ويزيد من مديونيتها ويخطف استثمارات هامة منها.

في الفترة الأخيرة لعبت تلك الاقتصادات التي تسمى صاعدة دور حافز للنمو الاقتصادي العالمي. لكنها الآن في أزمة. فتركيا والأرجنتين والبرازيل، وغيرها من الاقتصادات التي كانت تتمتع في السابق بالمرونة، غرقت اليوم في الركود، أو على الاقل في الانحسار.

الوجه الحقيقي للإمبريالية الأمريكية

شعار دونالد ترامب: "لنجعل أميركا عظيمة مجددا" هو تصريح إمبريالي يعني في الواقع ما يلي: "لنجعل أمريكا عظيمة مجددا، على حساب بقية العالم". ووراء تلك الخطابات المتبجحة والمغرورة يكمن التهديد الواضح لبقية العالم: افعلوا كما نقول لكم، أو تحملوا العواقب.

لا يملك الرئيس ترامب سوى القليل من الوقت لحلفائه الأوروبيين، الذين يراهم، بشكل صحيح، على أنهم مجرد أقزام مقارنة بالقوة الهائلة للولايات المتحدة. إنه غاضب من ادعاءات الأوروبيين، وتحركاتهم على الساحة العالمية، ومحاولاتهم السخيفة للتأثير على السياسة الخارجية الأمريكية. إنهم يطنون حول رأسه مثل ذباب مزعج. وبينما كان الرؤساء الأميركيون السابقون يفضلون التظاهر بأنهم يكترثون لهم بعض الشيء، فإن غريزته تدفعه إلى أن يصفعهم بقوة حتى يكفوا عن إزعاجه.

سياسة ترامب، في جوهرها، لا تختلف كثيراً عن سياسة أسلافه. فهم أيضا لم يترددوا في استخدام القوة الاقتصادية والعسكرية لفرض الإرادة الأمريكية على بقية العالم. لكنهم فعلوا ذلك بطريقة مختلفة: قد يقول البعض بنوع من الرقة، بينما قد يقول آخرون، وهم الأصح، بنفاق شديد.

وبينما كانوا يتغنون بفضائل الديمقراطية والعدالة والسلام والإنسانية، كانوا لا يترددون في أن يدوسوا بأقدامهم على كل ما يتعارض مع مصالح أميركا الحقيقية أو المتصورة. دونالد ترامب يفعل نفس الشيء بالضبط، لكنه لا يكلف نفسه عناء الحديث عن القيم التي لا مصلحة له فيها على الإطلاق، والتي لا تلعب أي دور في السياسة الخارجية للإمبريالية الأمريكية، أو أي إمبريالية أخرى.

لقد ألقى ترامب جانباً بقناع النفاق ليكشف أمام العالم بأسره عن الوجه القبيح الحقيقي للإمبريالية الأمريكية. يمكن للمرء أن يعترف له هنا بأنه يتحلى بالصراحة.

ما تزال أمريكا قوة عظمى على الصعيد العالمي. قوتها الاقتصادية والعسكرية هائلة حقا. لكن قوة أمريكا ليست بدون حدود. لقد تجلت حدودها بوضوح تام في العراق وسوريا وأفغانستان. وهو الواقع الذي سارع الرئيس ترامب إلى استخلاص نتائجه.

غريزة ترامب كلها تميل نحو الانعزالية، التي هي نزعة متجذرة وقديمة جدا بين قطاع معين من الطبقة السائدة الأمريكية. إنه كما سبق لنا أن أشرنا غير مهتم نهائيا بشؤون "حلفائه" الأوروبيين (والذين سبق له أن وصفهم بأنهم "أعداء"، في مقابل الروس الذين اعتبرهم مجرد "خصوم").

في واقع الأمر ليس لديه الوقت حتى لحلف الناتو، ويفضل أن يتم حله، جنبا إلى جنب مع الأمم المتحدة واتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية ومنظمة التجارة العالمية، وجميع المنظمات الفوق وطنية الأخرى التي يعتبرها مجرد ظواهر غير صحية.

لكن وبما أنه مجبر على أن يستمع إلى آراء مستشاريه العديدين المزعجين، فقد اضطر على مضض إلى قبول وجود هذا التحالف العسكري الكريه بالنسبة له، بينما طالب بصوت عال بأنه على "حلفاءه" الأوروبيين أن يضعوا أيديهم في جيوبهم لتمويله، وبالتالي تخفيف العبء عن كاهل دافعي الضرائب الأمريكيين الذين تعتبر أصواتهم بالنسبة له أكثر أهمية من آراء السادة في باريس وبرلين ولندن.

ومع ذلك فقد قرر من جانب واحد سحب القوات الأمريكية من الشرق الأوسط. سيثبت ذلك للأوروبيين أنه يعني ما يقوله، وربما سيجبرهم أخيراً على إخراج أموالهم. وهناك دافع مماثل وراء موقفه الذي يبدو متناقضا تجاه فلاديمير بوتين، الذي لم يكن خلال حملته الانتخابية يترك أي فرصة تمر دون الإشادة به واصفاً إياه بـ "الرجل الذكي"، والرجل الذي يمكن العمل معه.

لم تكن تلك العبارات تسعد المؤسسة العسكرية الأمريكية ولا صقور الحزب الجمهوري. وقد زودت أعدائه السياسيين بفرصة ذهبية لمهاجمته، متهمين إياه بتواطؤ روسيا معه في حملته الرئاسية. منذ ذلك الحين والحملة على أشدها ضد ما سمي بالتدخل الروسي في الانتخابات، على الرغم من أنها بقيت جعجعة بدون طحين.

لا يمكن للفكرة القائلة بأن انتصار ترامب كان بسبب التدخل الروسي أن تقنع أحدا. إنها مجرد انعكاس لعجز الديموقراطيين عن قبول واقع أن الشعب الأمريكي ساخط بشكل كبير على المؤسسات السياسية القائمة وتحركه رغبة عميقة في التغيير.

لقد اضطر ترامب، تحت ضغط خصومه، إلى القيام بتصريحات قوية ضد روسيا. لكن قراره بالانسحاب من سوريا يشير إلى أنه لم يغير موقفه منذ الانتخابات. ومرة أخرى انتصرت غرائز ترامب الانعزالية. فاستقال كل من جون كيلي، رئيس موظفي البيت الأبيض، وجيم ماتيس، وزير الدفاع، احتجاجا على ذلك. إلا أن الاحتجاجات والاستقالات لم يكن لها أي تأثير على ترامب في الماضي، ولا يوجد أي سبب للاعتقاد بأنه سيكون لها أي تأثير هذه المرة.

لكن الانعزالية لا تعني بأي حال من الأحوال الانغلاق، إذ أن هذا أمر مستحيل بسبب التيار الجارف في اتجاه توحيد جميع الاقتصادات المتباينة في العالم في سوق عالمية واحدة. ليست العولمة سوى تعبير عن ظاهرة سبق أن تنبأ بها ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي منذ أكثر من 150 عامًا.

ولقد أثبت تاريخ العالم ذلك التنبؤ بشكل كامل، لا سيما على مدى الخمسين سنة الماضية. لا يمكن لأي بلد، مهما كان حجمه وقوته، أن ينفلت من القبضة القوية للسوق العالمية. وليس كل الكلام عن السيادة الوطنية والسيطرة على الحدود، وما إلى ذلك، سوى هراء.

سحب العاصفة تتجمع

في سماء هذا الجو المشحون المضطرب تتجمع سحب عاصفة وشيكة تتمثل في قرب حدوث ركود عالمي جديد، وهو ما يؤكده جميع الاقتصاديين الجديين. والسؤال ليس ما إذا كان سيحدث، بل فقط متى سيحدث.

ينعكس عدم الاستقرار الاقتصادي العالمي في التقلبات المستمرة لأسواق الأسهم. بعد الانخفاضات التي حدثت في أكتوبر والركود الذي حدث في نوفمبر، تراجع مؤشر S & P 500 بنسبة 15% ما بين 30 نوفمبر و 24 دجنبر. وعلى الرغم من ذلك الانتعاش قصير الأمد الذي بلغ 5% خلال اليوم التالي لأعياد الميلاد، فقد أنهى المؤشر السنة بانخفاض 6% أقل من المستوى الذي بدأ به. وقد أظهر أول يوم تداول في عام 2019 المزيد من عدم الاستقرار، مع انخفاض الأسهم في آسيا والاضطرابات في أوروبا.

تسببت الأخبار غير المتوقعة عن انخفاض مبيعات Apple في حدوث موجة من القلق. وقد أصدرت الشركة تحذيرا من تباطؤ حاد في الاقتصاد الصيني، وضعف المبيعات في بقية الأسواق الصاعدة الأخرى. هذا يعني أن الإيرادات في الربع الرابع ستتخفض بنسبة تصل إلى 10% أقل من المتوقع. بعد فترة وجيزة انتشرت الأخبار عن تقلص القطاع الصناعي في الصين خلال دجنبر، مما أثار قلق المستثمرين على الصعيد العالمي. وانخفض تقييم العقود الآجلة في S & P 500 قبل افتتاح وول ستريت في 03 يناير.

تعتبر هذه التقلبات المحمومة في البورصات العالمية مؤشرا على العصبية الشديدة والقلق المتزايد حول المنظورات المستقبلية للاقتصاد العالمي. وفي حين أنه من الصحيح أن تحركات أسواق المال لا تعكس بدقة حالة الاقتصاد الحقيقي، فإنها تعمل كمؤشر مفيد لقياس الحالة الذهنية للمستثمرين.

أعربت الإيكونوميست في مقالة حديثة لها عن قلقها حيث قالت:

«لكن الأداء الضعيف لأسواق المال في العام الماضي يمكن أن يعزى جزئيا إلى القلق المتزايد بشأن حالة الاقتصاد العالمي، وبشأن حالة أكبر اقتصادين في العالم على وجه الخصوص».

ويواصل المقال قائلا:

«ووفقا لوحدة الاستعلامات الاقتصادية (EIU)، سوف تنمو أمريكا بنسبة 2,3% هذا العام. أي أقل من المعدل المتوقع الذي كان يقدر بـ 2,9% في العام الماضي، مع قيام الاحتياطي الفيدرالي بتشديد السياسة النقدية وتراجع آثار التخفيضات الضريبية التي طبقت خلال العام الماضي. إن معدل النمو المتوقع للصين أعلى بكثير، حيث يبلغ 6,3%، لكن هذا ما يزال منخفضا مقارنة بالأداء الذي كان متوقعا لعام 2018 - وهناك الكثير من الخوف من حدوث الأسوء بسبب الحرب التجارية مع أمريكا وسعي الصين للتحكم في المديونية.

إلا أن أوروبا تقدم صورة أكثر قتامة. فمن المتوقع أن تنمو بريطانيا، التي من المقرر أن تغادر الاتحاد الأوروبي في مارس المقبل، بنسبة 1,5%. تواجه فرنسا قدرا أقل من انعدام اليقين، لكنها ليست أفضل بكثير. أما إيطاليا، التي تعتبر خيبة أمل اقتصادية دائمة، فتتوقع نموا بنسبة 0,4% فقط، وهذا ما يجعل منها سابع أسوأ أداء في جدول توقعات الاتحاد الأوربي. ومن المنتظر أن تنكمش جميع الاقتصاديات الأقل منها في عام 2019».

وكما هو متوقع فإن الصحيفة تحاول بالضرورة العثور على بعض القش للتشبث به، مما جعلها تشير إلى أنه من المنتظر أن تنمو الهند بنفس معدل العام الماضي (7,4%). وفي الختام يخلص الكاتب قائلا بسخرية:

«لكن الاقتصاد الذي من المتوقع أن يحقق أفضل أداء في عام 2019 -أي الاقتصاد السوري بنسبة نمو 9,9%- هو تذكير واقعي بأن الرقم الكبير قد يدل على أن نقطة الانطلاق متدنية جدا».

هناك قلق متزايد بين صفوف الاقتصاديين البورجوازيين الجديين، ولهذا القلق ما يبرره. لقد سجل العائد الإجمالي (مكاسب الرأسمال أو الخسائر بالإضافة إلى توزيع الأرباح) للأسهم الأمريكية الرائدة رقما سلبياً، وذلك للمرة الأولى منذ عقد من الزمن. والأوضاع أسوأ من ذلك في الأسواق الأخرى. انخفض مؤشر شنغهاي بمقدار الربع. بينما يفر المستثمرون من الأصول الخطرة (بما في ذلك مما يسمى بالأسواق الصاعدة) إلى ملاذات آمنة. وقد تجاوز الطلب على سندات الخزانة والذهب المخزونات. وصار الرأسماليون الذين يتوقعون أوقاتا صعبة يعمدون الآن إلى اكتناز الأموال بدلا من الاستثمار في الإنتاج.

كل شيء يوحي بأنه عندما سيأتي الركود القادم سيكون أسوأ بكثير من أزمة عام 2008. والسبب الرئيسي في ذلك هو أن البرجوازية قد استخدمت خلال العقد الماضي كل الأدوات التي يمكن استخدامها تقليديا لمنع حالات الركود، أو للحد من مدته وعمقه.

لدى الرأسماليين سلاحان أساسيان للتعامل مع الركود. أولهما هو تخفيض أسعار الفائدة. لكنهم في سياق محاولاتهم اليائسة للخروج من الركود الأخير قاموا بتخفيض أسعار الفائدة إلى مستويات غير مسبوقة تاريخيا، حتى وصلوا إلى نقطة الصفر. وبالتالي فإنه لم يعد هناك أية إمكانية للمزيد من التخفيض. وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث رفع الاحتياطي الفيدرالي من أسعار الفائدة عدة مرات خلال العام الماضي، فإن هامش المناورة ما يزال ضيقا للغاية.

أما السلاح الثاني فهو زيادة كمية الأموال المتداولة من خلال تدخل الدولة والبنوك المركزية. لكن توجد مشكلة هنا، إذ لقد تم بالفعل ضخ كميات هائلة من الأموال في الاقتصاد على مدى العقد الماضي لإنقاذ البنوك الخاصة. إلا أن كل ما تم تحقيقه هو تحويل ما كان في الأصل ثقبًا أسودًا ضخمًا في ميزانيات البنوك الخاصة إلى ثقب أسود ضخم في المالية العامة.

إنهم يكدسون في كل مكان عجزا كبيرا ينزل بثقل هائل على الاقتصاد. إن البورجوازية تكافح من أجل تخفيض الديون لا من أجل الزيادة فيها. وبالنظر إلى هذه الحقيقة، فإنه لم تعد للبرجوازية أي إمكانية لأن تزيد في نهب الدولة لكي تخرج نفسها من الأزمة.

تتضح ورطة البرجوازية في حقيقة أن البنك المركزي الأوروبي قد أعلن نهاية سياسة التحفيز النقدي ("التيسير الكمي") في نفس الوقت الذي يسير فيه الاقتصاد الأوروبي نحو التباطؤ. لكن البرجوازية الأوروبية، المشغولة بمشاكل البريكست والهجرة، تبدو غافلة عن الخطر المحدق. فالبنك المركزي الأوروبي يطبق سياسة تناقض ما هو مطلوب من وجهة النظر الرأسمالية. كل هذا يثير أسئلة جدية حول مستقبل اليورو، وفي النهاية مستقبل الاتحاد الأوروبي نفسه.

لكن الوضع على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي ليس أفضل. لقد احتفل المسؤولون السياسيون الأمريكيون بعام 2019 بمشاحنة حادة أدت إلى إغلاق جزئي للحكومة في 22 دجنبر. قال السيد ترامب في شهر دجنبر خلال لقاء متلفز مع القياديين في الحزب الديمقراطي في مجلسي النواب والشيوخ، نانسي بيلوسي وتشاك شومر: "سأغلق الحكومة إذا لم أحصل على جداري". وقد نفذ تهديده.

صحيح أن عمليات الإغلاق مثل هذه قد حدثت من قبل. لكن لم يسبق لأي منها أن استمر لفترة طويلة مثلما هو عليه الحال الآن. يعكس هذا وجود أزمة عميقة في النظام السياسي برمته، مع كونغرس يسيطر عليه الديمقراطيون الشديدي العداء للرئيس. وكما كان متوقعا تم التوصل إلى اتفاق في آخر لحظة، لكن ترامب يهدد بنقض الصفقة. لم يتم حل أي من المشاكل الجوهرية.

ومما يزيد في صب الزيت على النار ذلك النزاع المستمر والمرير بين الرئيس وبين الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي نتيجة لإصرار هذا الأخير على رفع أسعار الفائدة. لكن بينما يتخاصم السياسيون بشأن السياسة الاقتصادية، فإن الأسواق تسير دون الاهتمام برأي هؤلاء السادة في واشنطن.

يبدو أن دونالد ترامب رجل عاش محظوظا في معظم سنين حياته. والرجل المحظوظ يميل إلى أن يكون مقامرًا. وبما أن الرهانات السابقة كانت ناجحة، فلماذا التوقف الآن عن المقامرة؟ لكن التاريخ يبين أنه بالنسبة لكل مقامر يجب أن يأتي اليوم الذي ينتهي فيه مسلسل حظه. كان من حسن حظ ترامب أن يدخل البيت الأبيض في الوقت الذي كان الاقتصاد الأمريكي قد بدأ ينتعش. لقد تمكن من أن ينسب إلى نفسه الفضل في أشياء لم يكن هو في الواقع من فعلها. لكن أولئك الذين دعموه لم يتمكنوا من رؤية ذلك. لحسن حظه.

يمكنه أن يدعي، بقدر من الصواب، أن إجراءات خفض الضرائب التي طبقها قد ساعدت على تعزيز الاقتصاد لفترة من الوقت. لكن في الاقتصاد، كما في الطبيعة، كل شيء يتحول عاجلاً أم آجلاً إلى نقيضه. إن الآثار قصيرة الأمد لحزمة التحفيزات التي طبقها الرئيس ترامب، والتي دخلت حيز التنفيذ قبل عام، قد بدأت تتلاشى في وقت بدأت تظهر فيه دلائل واضحة على تباطؤ اقتصادي في كل من الصين وأوروبا. إن سعي ترامب لفرض التعريفات الجمركية، والتهديد بمزيد من النزاعات التجارية هي بمثابة رادع إضافي للاستثمار. وقد تراجعت توقعات الأرباح.

يعكس التوتر السائد في أسواق الأسهم المخاوف بشأن أوضاع الاقتصاد الحقيقي. إن الولايات المتحدة الأمريكية على وشك الدخول في المرحلة الأكثر اضطرابا في تاريخها. وحظ دونالد على وشك الوصول إلى نهاية مأساوية.

أزمة القيادة

ينقسم المجتمع بشكل متزايد بين مجموعة صغيرة من الناس الذين يسيطرون على النظام وبين الأغلبية الساحقة من الذين يزدادون فقرا وهم في حالة تمرد مفتوح ضد النظام. وفي كل مكان ننظر إليه نرى تزايد السخط والغضب والكراهية ضد النظام القائم. يعبر هذا عن نفسه بطرق مختلفة في بلدان مختلفة، لكنه يمكننا أن نرى في كل مكان أن جماهير العمال والشباب قد بدأوا في التحرك، لتحدي النظام القديم والنضال ضده.

لقد شهد عام 2018 طفرة في النضالات الجماهيرية في العديد من البلدان: إيران والعراق وتونس وإسبانيا وكتالونيا وباكستان وروسيا والتوغو وهنغاريا، وبالطبع فرنسا. وتوفر الأحداث الأخيرة في فرنسا ردا ساحقا على جميع المتشككين والمرتابين الذين يشككون في قدرة الطبقة العاملة على تغيير المجتمع. فمثل صاعقة نزلت من سماء زرقاء صافية، خرج العمال والشباب إلى الشوارع، وفي غضون أسبوعين تمكنوا من إخضاع الحكومة. لو كانت هذه الحركة تتوفر على قيادة جدية لكان بإمكانها إسقاط الحكومة وإتاحة الطريق لإحداث تغيير جذري للمجتمع الفرنسي.

لكن في غياب قيادة وبرنامج واضح، من الممكن أن تخمد الحركة لبعض الوقت. إلا أن التناقضات الكامنة ستبقى قائمة. حكومة ماكرون تشبه سفينة بدأت تغرق، يمكنها أن تستمر في الطفو لبعض الوقت، لكن أيامها صارت معدودة. لقد صار العمال والشباب يشعرون الآن بقوة النضال الطبقي الجماعي، لذلك فإنه لن يمكن اسكاتهم عن طريق تنازلات جزئية ومؤقتة. وعاجلاً أم آجلاً سيعودون إلى النضال مجددا، لكن هذه المرة برؤية أكثر وضوحاً لما هو مطلوب، أي: برنامج جذري لطرد الرئيس المكروه والنضال من أجل حكومة تخدم مصالح الطبقة العاملة.

إن هذه الحركة العفوية للجماهير هي الشرط المسبق للثورة الاشتراكية. لكنها غير كافية في حد ذاتها لضمان النصر. سبق لتروتسكي أن كتب، عام 1938، أنه يمكن للمرء أن يختزل أزمة الإنسانية في أزمة القيادة البروليتارية. ويعتبر هذا الموقف أكثر راهنية اليوم مما كان عليه آنذاك. يعطينا تاريخ الحروب أمثلة كثيرة على تعرض جيش كبير من الجنود الشجعان للهزيمة على يد قوة أصغر بكثير من الجنود النظاميين بقيادة ضباط ذوي خبرة. والحرب بين الطبقات لديها نقاط تشابه كثيرة مع الحرب بين الدول.

لا تؤدي المراوغات الجبانة وأنصاف الإجراءات التي يتبناها الإصلاحيون إلى حل الأزمة، بل تؤجلها فقط فتجعلها تنفجر لاحقا بشكل أكثر حدة وإيلاما وتدميرا. إن مهمة الثوريين هي جعل احتضار الرأسمالية الطويل والمؤلم هذا ينتهي في أسرع وقت ممكن، ومع أقل معاناة ممكنة للطبقة العاملة. ولكي يحدث هذا يجب اتخاذ إجراءات حاسمة. إن الماركسيين وحدهم القادرون على توفير القيادة التي تضمن مثل هذه الخروج السريع والآمن من الأزمة الحالية.

صحيح أن القوى الماركسية على المستوى العالمي عانت من الضعف لفترة طويلة بسبب عوامل موضوعية. لقد سمحت خيانة الإصلاحيين والستالينيين للرأسمالية بالبقاء، لكن ذلك لم يكن ممكنا إلا بفعل قدرة الرأسمالية على تحقيق استقرار نسبي وتقديم تنازلات معينة للطبقة العاملة.

لكن تلك المرحلة قد وصلت الآن إلى نهايتها. لقد اضطررنا طيلة عقود للسباحة ضد التيار. إن مجرد حفاظنا على قوانا سليمة في تلك المرحلة كان إنجازا كبيرا. لكن تيار التاريخ قد بدأ الآن في التحول. وبدلا من السباحة ضد التيار، صار التيار يصب في صالحنا.

جميع اليقينيات القديمة تختفي. وجميع الأوهام القديمة تتساقط تدريجيا من وعي الطبقة العاملة. وقد صارت الجماهير مجبرة أخيرا على مواجهة الواقع. لقد بدأت ببطء في استخلاص النتائج. وهذا مصدر عظيم لقوتنا، ومصدر ضعف كبير للرأسمالية والإصلاحية.

تفتقر أمميتنا إلى الموارد المالية الضخمة المتوفرة للأحزاب الإصلاحية، لكن قوتنا في المجال الأكثر أهمية، أي مجال الأفكار، أكبر بما لا يقاس من أي تيار آخر في العالم. إننا نتوفر على الأفكار الماركسية. وقوة الأفكار هي التي يمكنها أن تغير العالم. يجب أن نكون على ثقة تامة بأفكارنا وبرنامجنا ومنظوراتنا، كما يجب علينا الثقة في الطبقة العاملة، التي هي الطبقة الوحيدة القادرة على تغيير المجتمع. وقبل كل شيء يجب علينا أن نثق بأنفسنا، لأننا إذا لم نقم بهذا العمل، فإنه لن يقوم به أي أحد آخر.