البلشفية طريق الثورة: الفصل الخامس: سنوات الحرب – كونفرانس كينثال

كانت أعراض الأزمة الثورية المتنامية واضحة للعيان. ومن بين الأمثلة: حشد من الناس في ألمانيا يستقبل الزعيم الاشتراكي اليميني شيدمان بصيحات الاستهجان؛ إضراب مستأجرين في غلاسكو؛ مظاهرات ضد ارتفاع تكلفة المعيشة في العديد من البلدان… إلا أن أبرز طريقة عبر بها عن نفسه ذلك الغليان الاجتماعي الذي كان موجودا في جميع البلدان المتحاربة، هي ارتفاع ملحوظ في عدد الإضرابات، كما يتضح من خلال الجدول التالي[1]:

[Source]

جدول يوضح ارتفاع عدد الاضرابات في أوربا 1915- 1916

البلد السنة عدد الإضرابات عدد المضربين
ألمانيا 1915 137 14.000
  1916 240 129.000
فرنسا 1915 98 9.000
  1916 314 41.000
روسيا 1915 928 539.000
  1916 1.410 1.086.000

كان لينين يراقب بعناية أي علامة على حدوث تحول في مزاج البروليتاريا الأوروبية. كان ذلك عنصرا محددا بشكل حاسم لمنظوراته للثورة في روسيا. في أكتوبر 1915، كتب قائلا: «إن المهمة التي تواجه البروليتاريا في روسيا هي إكمال الثورة البرجوازية الديمقراطية في روسيا من أجل إشعال الثورة الاشتراكية في أوروبا. إن هاتين المهمتين تقفان الآن جنبا إلى جنب…».[2]

لقد وجدت الأزمة الاجتماعية المتنامية صدى متأخرا لها داخل المنظمات الجماهيرية المنتمية للأممية الثانية، حيث عبّر سخط القواعد عن نفسه من خلال تزايد التأييد للجناح اليساري. وفي سياق سعيهم إلى ضرب اليسار، لجأ قادة الأممية الثانية إلى مناورة جديدة. كان المكتب الاشتراكي الأممي معطلا بشكل كامل منذ بداية الحرب. لكن وبشكل مفاجئ أعلن سكرتير المكتب، كميل هيسمانز، خلال مؤتمر للحزب الهولندي، في يناير 1916، أن “المنظمة الأممية لم تمت”. وكرد فعل من جانب اليسار انعقد اجتماع لـ”اللجنة الموسعة”، في فبراير 1916 في بيرن، بحضور مندوبين من النمسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا ورومانيا وسويسرا وبلدان أخرى، لفضح مناورة هيسمانز باعتبارها “مؤامرة ضد الاشتراكية “. تم الاتفاق هناك على الدعوة لعقد كونفرانس أممي آخر لليسار. وهو ما تحقق في أوائل شهر ماي في كينثال، حيث تم عقد كونفرانس ثان بمشاركة 43 مندوبا من روسيا وبولندا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا وسويسرا والنمسا وصربيا والبرتغال. حضر ويلي مونزينبرغ ممثلا عن فرع الشبيبة الأممية. وكان البلاشفة ممثلين بكل من لينين وزينوفييف وإينيسا أرماند. بالنسبة للبولونيين كان راديك (وحضرت مجموعة بولونية أخرى مثلها كل من ف. دومبروفسكي وميخيسلاف برونسكي)؛ وثلاثة اشتراكيين سويسريين: إرنست نوبز وفريتز بلاتن وأغنيس توبمان؛ ومثل الصرب تريشا كانتسليفوفيتش؛ وعن مجموعة يسارية في بريمن جاء بول فروهليش، بالإضافة إلى مونزينبرغ وثالهيمر، وغيرهم. كان اليسار أقوى هنا عما كان عليه الحال في زيمروالد. لكن وعلى الرغم من ذلك فإنهم لم يتفقوا على قرار بشأن السلام. كان مزاج الأغلبية ما يزال وسطيا. جاءت النتيجة النهائية حلا وسطا، لكنها مع ذلك شكلت تقدما بالنسبة لزيمروالد.

كانت التوترات بين اليمين واليسار في تصاعد مستمر داخل حركة زيمروالد، التي أقل ما يقال عنها إنها كانت حركة غير متجانسة. كان لينين مستعدا للتعايش المؤقت مع الوسطيين، لكن ذلك لم يكن ليستمر طويلا. الانشقاق داخل الأممية، الذي كان لينين وحده من فهمه، كان موجودا بالفعل على أرض الواقع. ففي ظل ظروف الحرب والثورة تكون جميع التيارات الوسطية محكومة بالزوال. ولم يقم لينين سوى بتسريع زوالهم من خلال تأكيده على ضرورة الوضوح. إن الغموض أمر غير مقبول خلال الفترات التاريخية الحرجة، عندما تكون هناك ضرورة حسم الاختيارات. كان الظرف الموضوعي يدفع الجماهير نحو اليسار، نحو طريق الثورة. وكان تيار زيمروالد الوسطي يقف مكتوف الأيدي. وبالتالي فقد كانت هناك طريقتان فقط للمضي قدما: إما السير حتى النهاية والقطع بشكل نهائي مع الإصلاحية والانتقال إلى الموقف الثوري الواضح، أو العودة إلى مستنقع الإصلاحية. لقد جعل لينين، بالكلمة والفعل، هذا الأمر واضحا للغاية، ولهذا كرهه الوسطيون، إذ كما هو الحال تاريخيا دائما ما يكره الشخص المرتبك الشخص الذي تكون لديه أفكار واضحة.

كان روبرت غريم هو أول من انتقل إلى معسكر اليمين. فبحلول صيف عام 1916، كان قد استسلم. كان لينين صارما في انتقاده للوسطيين الذين كانوا ثوريين بالأقوال، لكنهم إصلاحيون برجوازيين في الممارسة. كان ذلك السلوك بالضبط هو ما يكرهه لينين. بعد ذلك سار كل من توراتي وميريم وبوردون وسائر الوسطيين الآخرين على نفس الدرب. وفي النهاية لم يتبق شيء من زيمروالد، باستثناء الذاكرة، واليسار! لم يكن ليسار زيمروالد نفسه أهمية مستقلة إلا باعتباره نقطة انطلاق لبناء الأممية الجديدة. لكن بناء تلك الأممية كان يحتاج لأحداث كبرى كانت ما تزال على بعد بضعة أشهر فقط. من خلال تجربة زيمروالد اكتسب لينين خبرة لا تقدر بثمن ومجموعة واسعة من العلاقات مع التيارات اليسارية الألمانية (مجموعة سبارتاكوس ومجموعة بريمن أربيتيربوليتيك)، ومجموعة فردناند لوريوت في فرنسا، وجون ماكلين في بريطانيا، وأوجين ديبس في الولايات المتحدة الأمريكية، وبانيكوك وغورتر في هولندا، وسيراتي وغرامشي في إيطاليا، وفريتز بلاتن في سويسرا، وهانييكي وراديك في بولونيا. كانت هناك أيضا مشاكل داخل يسار زيمروالد. إذ لم تكن المواقف السياسية موحدة بين كل من سبقت الاشارة إليهم. بل حتى أشخاص بارزين في دائرة لينين، مثل راديك وبوخارين وبياتاكوف وغيرهم، لم يكونوا يتبنون موقفا بلشفيا لينينيا واضحا. حتى اليسار كان مفتقرا للتجانس إلى حد ما. كانت تلك، أيضا، مرحلة ضرورية في الرحلة نحو ثورة أكتوبر. لكن هذا المنظور كان يبدو بعيد المنال في ذلك الوقت.

كان لينين المحاصر في منفاه السويسري يجوب أرجاء غرفته مثل نمر محبوس. ألن ينتهي كابوس الردة الرجعية هذا؟ كانت مشاعر العزلة والإحباط المميزة لحياة المنفيين بمثابة سم ينخر ببطء حتى أقوى الشخصيات. حتى لينين لم يكن محصنا ضد هذا السم. ففي بعض الأحيان كانت تعذبه فكرة أنه قد لا يعيش ليرى الثورة. وفي خطاب كتبه لإينيسا أرماند، مطلع عام 1916، عبر لينين عن قلقه قائلا: «إن الحركة الثورية تنمو ببطء شديد وبصعوبة هائلة». وأضاف بنبرة حزينة: «ما علينا إلا أن نتحمل». وفي أحد أكثر أشكال سخرية التاريخ غرابة، نجد لينين في خطاب ألقاه أمام الشباب الاشتراكيين السويسريين، في يناير 1917، يقول: «نحن الجيل الأكبر سنا قد لا نعيش لرؤية المعارك الحاسمة لهذه الثورة القادمة».[3] لكن وبعد شهر واحد اندلعت ثورة أطاحت بالقيصر. وبعد أقل من عام تمكن البلاشفة من الوصول إلى السلطة.

آلان وودز

ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي

هوامش:


[1]: Istoriya KPSS, vol. 2, p. 624.

[2]: LCW, Several Theses, vol. 21, p. 402.

[3]: N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p. 335.