ما هي المواقف الحقيقية للتيار الماركسي الأممي – رد على اللومبرتيين – الجزء الأول

إن أفكار التيار الماركسي الأممي واضحة للغاية. نحن ندافع عن الأفكار الحقيقية للماركسية ونستند إلى أعمال ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي. يمكن للمرء أن يتفق أو لا يتفق مع هذه الأفكار، لكننا أحيانا نواجه خصوما مستعدين للذهاب إلى أبعد الحدود في تشويه مواقفنا وتزييفها. وهذا ما حدث مرارا من طرف العديد من العصب، لذا، ومن أجل شرح مواقفنا الحقيقية لقراء العربية، نقوم بنشر هذا الرد على الهجوم الخبيث الذي شنت الجريدة الفرنسية “الحقيقة” (La Vérité) سنة 2006، والذي سيكون على شكل أجزاء.


[Source]

بيان هيئة تحرير موقع الدفاع عن الماركسية

يهدف موقع الدفاع عن الماركسية (In Defence of Marxism)، والمنظمة التي تنشره: التيار الماركسي الأممي، إلى توفير تحليل عن المجتمع الرأسمالي والصراع الطبقي الذي ينجم عنه. نقوم بتطوير منظورات ماركسية للاتجاه الذي نعتقد أن المجتمع سيسير فيه وأخيرا نقدم برنامجا لعمال العالم من أجل النضال ضد هذا النظام وتحقيق مجتمع اشتراكي، مجتمع يصبح فيه الاستغلال والظلم من مخلفات الماضي الرأسمالي الهمجي. ونحن نعمل في جميع البلدان التي نتواجد فيها، على التدخل بنشاط في الحركة العمالية من أجل بناء معارضة يسارية ماركسية حقيقية، هدفها النهائي توفير قيادة ثورية للطبقة العاملة.

توجد على الصعيد العالمي العديد من التيارات الأخرى التي تحاول تقديم بدائلها. ولدينا خلافات مع العديد منها حول الموقف من الحركة العمالية وطريقة عملنا وأفكارنا الأساسية، والتي يمكن للجميع التعرف عليها من خلال الاطلاع على مجموعة واسعة من المقالات المنشورة على موقعنا.

يمكن لقرائنا أن يحكموا بأنفسهم من خلال قراءة المواد المتعلقة بالقضايا الرئيسية المطروحة على المحك. لكننا في بعض الأحيان لا نجد أنفسنا أمام “جدال” ولا أمام اختلاف حقيقي مع أفكارنا وأساليبنا، بل أمام التزوير الكامل لمواقفنا. نحن نعتقد أنه لكي يستفيد المناضلون داخل الحركة العمالية من أي تبادل للأفكار، يتوجب على المشاركين في الجدال أن يلتزموا على الأقل بالصدق حول ما يقوله وما يكتبه خصومهم.

ليس هناك في العالم ما هو أسهل من أن توقف دمية قش ثم تطيح بها. إن تزييف موقف الخصم من أجل السخرية منه لا يخدم أي غرض ذي معنى. مثل هذا السلوك لا يساعد العمال والشباب على فهم القضايا المطروحة حقا على المحك. قد يمنح ذلك الكاتب شعورا بالرضا عن النفس، لكنه بالتأكيد لا يعزز مكانته داخل الحركة العمالية الأوسع. إننا نفضل أن يكون هناك نقاش نزيه حول ما نمثله ونجيب على أي انتقادات لمواقفنا الحقيقية.

أبدا لم يكن ليتبادر لذهن إنجلز تزييف حجج دوهرينغ من أجل تسجيل نقاط رخيصة عليه. نرى في جميع جدالات ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي أقصى أنواع النزاهة تجاه اقتباس ما يقوله خصومهم. هذا هو السبب في أنهم كانوا دائما يقتبسون مقاطع مطولة من كتابات خصومهم، ولا يقتطعون عبارات معزولة خارج السياق من أجل تشويه المواقف التي كانوا يردون عليها. والسبب في ذلك بسيط للغاية: فبالنسبة للتيار الماركسي الحقيقي، ليس الهدف من وراء الجدال تسجيل النقاط ولا إهانة الطرف الآخر، بل رفع المستوى النظري للكوادر.

أسلوب غير نزيه

كان علينا في الماضي أن نتعامل أحيانا مع الانتقادات غير النزيهة، لكننا نفضل عموما عدم الدخول في جدالات مع العصب التي تسمي نفسها زورا “تروتسكية” والتي تتنكر وراء اسم “الأممية الرابعة”. هذه المنظمات التي تعتاش على هامش الحركة العمالية لا تتوقف عن مهاجمة بعضها البعض، في جو من الإدانات الهستيرية المتبادلة. ليست لهذه المجموعات العصبوية أية علاقة بأفكار ليون تروتسكي وأساليبه الحقيقية، وتتسبب في تنفير العمال وتحويلهم ضد التروتسكية بشكل عام.

نحن عادة ما نتجاهل هجمات العصب، التي لا تمثل في الواقع إلا نفسها. لكن هناك أوقات نشعر فيها بأننا ملزمون بوضع النقاط على الحروف. في عصر الإنترنت صار في إمكان حتى أكثر المجموعات تفاهة أن تنشر أبشع الأكاذيب والافتراءات حول مواقفنا. لذلك نحن مضطرون لتخصيص بعض الوقت من أجل شرح مواقفنا الحقيقية. لكن في هذه المقالة علينا مع الأسف أن نتعامل مع حالة تزوير.

لذلك نطلب من قرائنا التحلي بقليل من الصبر بينما نخصص بعض الوقت والمساحة للرد على الافتراءات والتعريض والأكاذيب الصارخة حول التيار الماركسي الأممي التي نشرتها الجريدة الفرنسية La Vérité [الجريدة النظرية لمجموعة أخرى تدعي كونها الأممية الرابعة] في عددها رقم 48 (من الإصدار الجديد)، بتاريخ فبراير 2006. والمجموعة التي تقف وراء هذه الجريدة معروفة أكثر باسم “اللومبرتيين”، وهي واحدة من العديد من المجموعات المنشقة التي انبثقت من حطام الأممية الرابعة القديمة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وهذا هو الاسم الذي سنعرفهم به في هذا النص.

إن الأساليب غير النزيهة في الجدال لا ترفع المستوى النظري للكوادر، بل تحط منه في الواقع. لم تكن هذه طريقة الحزب البلشفي بقيادة لينين وتروتسكي، بل كانت الطريقة المشينة لزينوفييف وستالين، التي دمرت الحزب البلشفي والأممية الشيوعية، وسوف تدمر تلك التيارات التي تسمي نفسها تروتسكية، والتي تخلت منذ فترة طويلة عن أفكار وأساليب وتقاليد تروتسكي. وليس الانشقاق الأخير الذي عرفته المنظمة اللومبرتية إلا دليلا آخر على هذا الواقع.

ليست أزمة اللومبرتيين سوى الحلقة الأخيرة في التفكك المخزي لتلك العصب التي نشأت عن انحطاط الأممية الرابعة بعد وفاة تروتسكي. كل تلك المنظمات التي تعلن نفسها بأنها الأممية الرابعة غارقة، بطريقة أو بأخرى، في الأزمات والانشقاقات والتفكك. إنهم غير قادرين نهائيا على تقديم تفسير نظري لأهم الظواهر التي نراها في عالمنا اليوم: من انهيار الستالينية إلى الثورة الفنزويلية. وهم، قبل كل شيء، غير قادرين بطبيعتهم على التوجه نحو الحركة الحقيقية للجماهير. إنهم يقفون مدانين على هامش التاريخ.

إن التيار الماركسي الأممي، هو التيار التروتسكي الوحيد في العالم الذي أثبت قدرته على البقاء، ليس فقط من الناحية النظرية، التي لا يضاهي إنجازاتنا فيها أحد، بل أيضا من الناحية العملية، بفضل عملنا الجاد والمنهجي لنشر الأفكار الماركسية اللينينية (التروتسكية) الحقيقية داخل المنظمات الجماهيرية للطبقة العاملة. التيار الماركسي الأممي هو الوحيد الذي شرح المعنى الحقيقي للثورة الفنزويلية وتدخل فيها بنشاط. هذه حقيقة لا يمكن لأحد أن يجادل فيها. وما يزعج الرفيق لومبرت وزملاؤه هي هذه الحقيقة بالتحديد: أننا تمكنا من العثور على طريق نحو الجماهير، بينما فشلوا هم (وجميع تلك التيارات “التروتسكية” 57 الأخرى) في ذلك.

نجاحاتنا هي التي أدت إلى تلك الهجمات الغاضبة من جانب العصب علينا. لقد فقد اللومبرتيون للتو الأغلبية العظمى داخل فرعهم البرازيلي، والذي كان أحد أكبر وأهم فروعهم خارج فرنسا. ومن بين أسباب ذلك الانشقاق بلا شك عدم قدرة القادة اللومبرتيين على فهم طبيعة الثورة التي تتصاعد في أمريكا اللاتينية. لقد تبنوا تجاه الثورة الفنزويلية نفس المخططات الميكانيكية والصورية التي ميزت نظرتهم طيلة عقود. ونتيجة لذلك وقفوا عاجزين بشكل مطلق عن التدخل في الثورة.

وقد أثار ذلك تساؤلات في أذهان أعضائهم، وخاصة في أمريكا اللاتينية. قام الرفاق في فرعهم البرازيلي بمحاولات جادة لإقامة اتصالات مع التيارات الثورية في فنزويلا، وهذا ما جعلهم يتصلون بالرفاق في الفرع الفنزويلي للتيار الماركسي الأممي (CMI)، الذين يلعبون دورا رائدا في حركة المصانع المحتلة في فنزويلا. ويبدو أن هذا هو السبب وراء طرد اللومبرتيين لهؤلاء الرفاق.

وبعد أن رأينا كيف يشوهون ويكذبون ويزورون المواقف السياسية للتيار الماركسي الأممي، لا يسعنا إلا أن نفترض أن مجموعة O Trabalho قد تعرضت لنفس مدرسة التزييف، ونعرب عن تعاطفنا معها. وبما أن الدافع وراء الهجمات ضد تيارنا هو صراعهم مع أغلبية الفرع البرازيلي، فإننا سنبدأ بتوضيح مسألة علاقاتنا بهؤلاء الرفاق.

علاقاتنا مع O Trabalho

لقد خصص اللومبرتيون حوالي نصف طبعة ماي (عدد 49-50)، للأحداث الأخيرة التي وقعت داخل فرعهم البرازيلي. وهناك يكررون العديد من الافتراءات التي سبق لهم أن نشروها في عدد فبراير. لا نريد الدخول هنا في ذلك الصراع الذي اندلع في البرازيل. لكن أحد الاتهامات الرئيسية ضد قادة الفرع البرازيلي، المعروف باسم مجموعة O Trabalho ، هو أنهم كانوا يعملون سرا بالتعاون مع التيار الماركسي الأممي.

نرى هنا مثالا واضحا على ذلك النوع من الهستيريا والبارانويا التي تشكل الجو المعتاد داخل العصب “التروتسكية” في جميع البلدان. فعوضا عن أن تتعامل قيادة تلك العصب بجدية مع الخلافات السياسية -التي ستنشأ لا محالة من وقت لآخر- تجدها تميل إلى تفسير الأمر بوجود مؤامرات ضدها. ويردون بالاتهامات الحادة والهجمات الشخصية والإجراءات البيروقراطية، الشيء الذي يعتبر وصفة فعالة لخلق الأزمات والانشقاقات الداخلية. لكن هؤلاء القادة لا يهتمون بحجم الضرر الذي يلحق بالمنظمة، طالما أن سلطتهم الشخصية محمية.

في الواقع إن اتهام منظمة O Trabalho والتيار الماركسي الأممي بالتعاون السري بينهما غير صحيح على الإطلاق. لقد جاء اتصالنا مع الرفاق البرازيليين في منظمة O Trabalho نتيجة لعمل رفاقنا الفنزويليين الذين، كما سبق لنا أن أوضحنا، يلعبون دورا رياديا في حركة المصانع المحتلة في فنزويلا وبالتالي جذبوا، بشكل طبيعي، انتباه سيرج غولار في مجموعة O Trabalho، والذي هو قيادي بارز داخل حركة المصانع المحتلة في البرازيل.

لقد تعرض الرفيق غولار، وبقية العمال الآخرين المشاركين في حركة المصانع المحتلة في البرازيل، لهجوم من طرف الدولة. فعملوا على إصدار نداء عام لعمال العالم من أجل التضامن معهم، كما طلبوا منا نحن على وجه التحديد أن نساعد في هذه الحملة. لقد استجبنا لهذا النداء، كما سنستجيب لأي طلب من جميع العمال الذين يتعرضون للهجوم. ونتيجة لجهود موقع Marxist.com، قام العديد من رفاقنا العمال، الذين يشغلون مناصب في الحركة العمالية في بلدانهم، بنشر النداء على نطاق واسع وأرسلوا خطابات الدعم. لقد كان ذلك أقصى ما وصل إليه الاتصال بيننا. أما إلى أي مدى قام اللومبرتيون بحملة للتضامن مع رفاقهم البرازيليين، فنحن لا نعرف، إلا أن انطباعنا هو أنهم لم يقوموا بالكثير.

وفي غضون ذلك أدى الصراع بين قيادة اللومبرتيين وبين فرعهم البرازيلي إلى حدوث انشقاق. شنت قيادة اللومبرتيين حملة شرسة ضد الأغلبية داخل مجموعة O Trabalho. وفي طبعة فبراير لجريدة La Vérité، هناك الكثير من الإشارات إلى “تيار غرانت- وودز” – أي التيار الماركسي الأممي-، في مقال تحت عنوان: “بخصوص سياسة تيار غرانت- وودز”[1]، وهو المقال الذي سنتعامل معه بشكل رئيسي هنا.

وكمؤشر على الأساليب الخبيثة التي يستخدمها هؤلاء العصبويون، فإنهم بدأوا هجومهم على التيار الماركسي الأممي من خلال مهاجمة تيار آخر لا علاقة لنا به على الإطلاق. لقد أشاروا بأصابع الاتهام إلى ما يسمى “الأمانة الموحدة للأممية الرابعة”، أي التيار الماندلي. والسبب وراء هذا التشويه الصارخ واضح: فهم يرغبون في تحميل التيار الماركسي الأممي المسؤولية وراء المواقف الانتهازية التي تتبناها “الأمانة الموحدة للأممية الرابعة”.

إن أسلوب La Vérité هو نفس أسلوب الستالينيين الذي وصفه تروتسكي بأسلوب الخلط. ما لدينا هنا هو “تهمة الجرم بالتبعية”، باستثناء أن هذه التهمة موجودة في نصوص اللومبرتيين فقط وليس في الواقع. نخبر منتقدينا اللومبرتيين أنه لا تربطنا أية علاقة على الإطلاق بتلك المنظمة [الماندلية] ولا يمكن تحميلنا المسؤولية عن أي شيء يفعلونه أو يقولونه. لكن هذا “الارتباك” الذي عبرت عنه La Vérité ليس مصادفة (على الرغم من أنهم مرتبكون حول كل شيء تقريبا).

في البرازيل كان للمندليين وزير في حكومة لولا يدعم سياساتها الرجعية. أدى ذلك إلى حدوث انشقاق في صفوفهم وهناك الآن مجموعتان تدعمان كلاهما “الأمانة الموحدة”. وهذه سمة مميزة للنزعة الانتهازية البنيوية للمندليين بشكل عام. لكن ليس لذلك أية علاقة على الإطلاق بتيارنا، الذي عارض دائما الأفكار التحريفية لماندل وشركائه، وقطع، نتيجة لذلك، بشكل حاسم مع “الأمانة الموحدة للأممية الرابعة”، عام 1965، ولم يعد له منذ ذلك الحين أي اتصال مع تلك المنظمة.

المشكلة هنا هي أن قراء صحيفة La Vérité لا يعرفون شيئا عن التيار الماركسي الأممي (“أممية وودز- غرانت) لأنهم لا يعرفون التاريخ الحقيقي للأممية الرابعة. تريد La Vérité إبقائهم في غياهب الجهل عن طريق نشر الأكاذيب والارتباك بشكل متعمد. يعمل اللومبرتيون بشكل متعمد على خلط كل شيء معا: بابلو وماندل، وودز- غرانت. لذا فإن مهمتنا الأولى هي إلقاء بعض الضوء على تاريخ الحركة، على أمل أن تبدأ La Vérité (الحقيقة) أخيرا في الارتقاء لتستحق اسمها.

متى انحطت الأممية الرابعة؟

يمكن إرجاع جذور الانحطاط السياسي والتنظيمي للأممية الرابعة إلى وقت وفاة تروتسكي. ويتحمل جميع قادة الأممية الرابعة بدون استثناء: بابلو وفرانك وكانون وماندل وهيلي ولومبرت (إذا كان من الصحيح اعتبار الأخيرين قادة في ذلك الوقت) مسؤولية جماعية عن ذلك الانحطاط. لكن هذا شيء حرص لومبرت على إخفائه بعناية عن قواعده طيلة عقود. لقد ظلوا يجهلون القصة الحقيقية للأممية، وبدلا من ذلك يتم إطعامهم بقصة خيالية تقول إن الأممية الرابعة كانت على ما يرام حتى عام 1953 حين انحطت بشكل غامض. لقد حان الوقت لوضع حد لهذه القصة الخيالية وقول الحقيقة. [انظر الملحق: أسباب انهيار الأممية الرابعة].

سنتطرق لاحقا لتلك القائمة الطويلة من التشويهات التي تعرضت لها مواقفنا الحالية. أما الآن دعونا نبدأ بتصحيح المعطيات التاريخية. لا يزعج المؤلف نفسه بالتعامل بجدية مع تاريخ الأممية الرابعة. إنه لم يجرؤ على الدخول في التفاصيل لأن السجل التاريخي سيكون محرجا للغاية بالنسبة للومبرت. وبدلا من أن يتعامل مع المسألة بشكل صحيح، اقتصر بتواضع على الهوامش. وفي تلك الهوامش صور “التيار الذي أسسه تيد غرانت” على أنه كان تيارا “يمينيا” داخل الأممية الرابعة عند نهاية الحرب العالمية الثانية.

ما هي مبررات هذا الادعاء؟ أين الدليل الوثائقي والاقتباسات والمقررات؟ لم يتم تقديم ولو دليل واحد على هذا الادعاء الفضائحي. والسبب هو أنه ليس لديه أدنى أساس في الواقع. ليس هذا هو المجال المناسب لنشر تاريخ موثق للأممية الرابعة، لكننا نعتزم خلال الأشهر القليلة القادمة التطرق لهذه المسألة وإعادة نشر كتابات الرفيق تيد غرانت، التي ستحطم تماما خرافة أن الفرع البريطاني (الحزب الشيوعي الثوري) كان “انحرافا يمينيا”. بل على العكس تماما توضح الوثائق أن الحزب الشيوعي الثوري كان وحده من استمر يدافع عن أفكار تروتسكي وأساليبه وسياساته، في حين كانت القيادة الرسمية للأممية الرابعة مخطئة في كل القضايا الرئيسية. كانت أخطاء بابلو وكانون وماندل وفرانك وشركاؤهم هي التي أحبطت كوادر الأممية وتسببت في الأزمات الداخلية والانشقاقات التي أدت إلى تدميرها.

سبق لتيد غرانت أن انتقد السياسة الخاطئة لقادة الأممية في مقال: Program of the International (يمكن العثور على هذه الوثيقة وغيرها من وثائق تلك الفترة في أرشيف Ted Grant). بالطبع يمكن لأي كان أن يرتكب الأخطاء، لكن القيادة الجادة مستعدة للاستماع إلى النقد وتصحيح الأخطاء والتعلم منها. تبرز المشكلة عندما تكون القيادة غير مستعدة للاعتراف بالخطأ وتستمر في تكرار نفس الأخطاء. في مثل هذه الحالة لا يعود الأمر متعلقا بالأخطاء، بل بنزعة محددة.

لا بد أن ينعكس الخط السياسي غير الصحيح، عاجلا أم آجلا، في أساليب تنظيمية غير صحيحة وفي نظام داخلي غير صحي. كنا قد أوضحنا لقيادة الأممية، مرات عديدة، أن السلطة الوحيدة التي يمكن أن تكون لها هي السلطة السياسية والأخلاقية. يجب على القيادة أن تقنع الأعضاء بالحجج والشرح الصبور، وليس بالوسائل البيروقراطية والترهيب والتهديدات. لكن القيادة التي تفتقر إلى السلطة السياسية والأخلاقية اللازمة، ستلجأ حتما إلى استعمال الأساليب التنظيمية في محاولة لإسكات النقد.

عندما كان لينين وتروتسكي، خلال الأيام الأولى للأممية الشيوعية، يقودان أحزابا شيوعية جماهيرية، كانا يتعاملان دائما مع الاختلافات (وكان هناك الكثير منها!) بصبر. لم يكن ليتبادر إلى ذهنيهما أبدا معاملة البورديغيين أو “اليساريين” الألمانيين والبريطانيين، على سبيل المثال، من خلال الإنذارات والطرد. هذه وصفة فعالة لتدمير الأممية. كان زينوفييف وستالين هما من أدخلا تلك الطرق إلى الأممية الشيوعية. والسبب في ذلك هو أنهما كانا عاجزين عن الرد على منتقديهما باستخدام الحجة السياسية النزيهة. لم تكن لديهما السلطة السياسية والأخلاقية اللازمة، لذلك حاولا استخدام الوسائل التنظيمية لحل المشاكل السياسية.

كان هذا هو الحال مع قادة الأممية الرابعة بعد وفاة تروتسكي. فبسبب عجزهم عن الإجابة على حجج الرفاق البريطانيين، في الفترة ما بين 1944 و1950، لجأوا إلى المؤامرات والمناورات التنظيمية، أي أنهم اعتمدوا أساليب زينوفييفية. لم يتمكنوا أبدا من كسب أغلبية الفرع البريطاني من خلال مناقشة ديمقراطية، وبالتالي لجأوا إلى المناورة مع أقلية صغيرة، بقيادة جيري هيلي، لتقسيم الفرع وطرد الأغلبية. وهذه هي نفس الأساليب التي يستخدمها لومبرت وغلوكشتاين اليوم لطرد أغلبية الفرع البرازيلي. من كان المسؤول الأول عن هذه الأساليب؟ إنه بابلو، إلى جانب كانون وماندل وفرانك وجميع من يسمون قادة الأممية. لقد تعلم لومبرت هذه الأساليب منهم، وأثبت أنه التلميذ الأكثر نباهة في مدرسة بابلو.

لقد كان كانون، على الرغم من عيوبه، الأفضل بينهم ربما. فهو، على الأقل، كان قائدا عماليا ولعب دورا مهما في تجميع أول الكوادر التروتسكية خلال الأيام الأولى للمعارضة اليسارية. لكن كانون لم يكن أبدا منظرا. لقد كان منظما ومحرضا. وعلى الرغم من أن تروتسكي قد دعم الموقف السياسي لأغلبية حزب العمال الاشتراكي (SWP) ضد المعارضة البرجوازية الصغيرة، بقيادة شاختمان، إلا أنه لم يتغاض أبدا عن أساليب كانون التنظيمية، والتي أدت بالضرورة إلى الانشقاق. وحتى قبل الحرب استخدم كانون الأساليب التنظيمية الزينوفييفية ضد تيارنا (انظر: History of British Trotskyism). إن مثل هذه الأساليب لا بد أن تدمر حتما أي منظمة تستخدمها. ومصير حزب العمال الاشتراكي الأمريكي، وكل الأممية الرابعة، تحذير واضح في هذا الاتجاه.

عندما كان تروتسكي على قيد الحياة، كان من غير الممكن أن يتم التسامح مع الأساليب الزينوفييفية داخل الأممية. لكن بعد وفاته، سرعان ما قام قادة الأممية الرابعة، المتغطرسين المدعين، بالتخلي عن طريقة الشرح الصبور التي كان تروتسكي يستخدمها دائما، واستبدلوها بـ”العصا الغليظة”. كان لينين قد حذر بوخارين ذات مرة، عندما كان هذا الأخير رئيسا للأممية الشيوعية، قائلا: «تريد الطاعة: ستحصل على حمقى مطيعين». لم يستطع بابلو وكانون وماندل وفرانك تحمل النقد (تماما مثل لومبرت وغلوكشتاين اليوم). وعندما تبين أن مواقف الحزب الشيوعي الثوري صحيحة، الواحدة منها تلو الأخرى (الصين وأوروبا الشرقية وأوروبا الغربية ويوغوسلافيا، الخ)، ردوا من خلال إثارة انشقاق في صفوف الفرع البريطاني، باستخدام عميلهم جيري هيلي. كان الحزب الشيوعي الثوري قد تعرض للطرد والتدمير بتلك الأساليب الزينوفييفية –وهي أساليب لا علاقة لها نهائيا مع أساليب تروتسكي، والتي نسخها لومبرت بأمانة من بابلو!

منظورات خاطئة

نقرأ في الحاشية 01 في المقالة اللومبرتية ما يلي:

«بعد انهيار الحزب الشيوعي الثوري، طور غرانت وأتباعه بعض الأفكار التي تشاركوا فيها مع البابلويين، ولا سيما الموقف القائل بأن القوى المنتجة لديها القدرة على التطور، مما دفعهم إلى القول بأن الاشتراكية الديمقراطية ما يزال لها مستقبل تاريخي».

لقد تمكنت هذه الملاحظة الصغيرة من أن تتضمن خطأ، وأحيانا خطأين، في كل جملة. إن الحزب الشيوعي الثوري لم “ينهر”. إنه، كما أوضحنا، تعرض لتدمير متعمد على يد القيادة “البابلوية”، التي كان يتبعها بأمانة أمثال بيير لومبرت وجيري هيلي في ذلك الوقت. وعلى عكس الأسطورة السخيفة التي يحاول لومبرت نشرها، لم يكن الحزب الشيوعي الثوري “بابلويا”، بل كان (على عكس لومبرت) يعارض بشدة خط بابلو وبقية قادة الأممية. كان البابلوي البريطاني الأصلي في الواقع هو جيري هيلي. في بريطانيا كان هيلي التابع الأكثر إخلاصا لبابلو وكان ينفذ كل تعليمات سيده في باريس. بل إنه، في إحدى المرات، “تبنى موقفا” ببرقية (انظر History of British Trotskyism للحصول على التفاصيل).

في الواقع لم تكن لدى بابلو وتابعه هيلي أية قاعدة دعم تقريبا داخل الفرع البريطاني. كل مؤامرات قيادة الأممية لم يكن لها تأثير على الأعضاء، الذين كانوا في أغلبيتهم بروليتاريين، وظلوا مخلصين لأفكار وأساليب تروتسكي، التي دافع عنها تيد غرانت وقيادة الحزب الشيوعي الثوري. لهذا السبب قررت قيادة الأممية تحطيم الفرع البريطاني. لقد كان شعارهم دائما هو: “احكم أو خرّب”. وهذا هو شعار لومبرت وغلوكشتاين أيضا، لهذا السبب فقدوا فرعهم البرازيلي للتو، ولهذا السبب لن يتمكنوا أبدا من بناء أممية ثورية حقيقية ولو بعد ألف عام.

ثم يواصل المؤلف في القول (دون خجل) إن: «غرانت وأتباعه طوروا أفكارا معينة تشاركوا فيها مع البابلويين». يا لها من فكرة! لكن إذا كان لدى الحزب الشيوعي الثوري الكثير من القواسم المشتركة مع بابلو وشركائه، لماذا قام هذا الأخير بطرد الحزب من الأممية؟ هنا نترك وراءنا العالم الواقعي وندخل إلى العالم الخيالي لأليس في بلاد العجائب، حيث كل شيء يقف على رأسه.

ستظهر الوثائق التاريخية أنه لم يكن لدى تيد غرانت، في الواقع، أي شيء مشترك مع الأفكار والمنظورات التي دافع عنها بابلو وماندل وكانون وهيلي، و… لومبرت. كانت تلك المنظورات خاطئة مائة في المائة وتسببت في تقويض سلطة الأممية الرابعة، ليس فقط عند العمال المتقدمين، الذين كانوا حتى ذلك الوقت يتعاطفون مع تروتسكي، بل حتى عند كوادر الحركة التروتسكية نفسها. هذا هو السبب الحقيقي لانحطاط وانهيار الأممية الرابعة. لم يكن انشقاق 1953 نقطة البداية للانحطاط، بل نتيجته الحتمية. ومنذ ذلك الحين صار تاريخ هذه المنظمة تاريخ الأزمات والانشقاقات المتتالية.

ما هي المنظورات التي طرحها بابلو وشركاؤه -بدعم كامل من لومبرت وهيلي- بعد الحرب العالمية الثانية؟ كان لديهم اعتقاد أننا مقبلون على مرحلة ركود وحرب وثورة وشيكة. لقد أنكروا أي إمكانية لتحقيق ولو استقرار مؤقت للرأسمالية في أوروبا، وبدلا من ذلك طرحوا منظور الأنظمة الديكتاتورية والبونابرتية. ومن هذه المنظورات تنبع تكتيكات معينة. طرح بابلو والآخرون تكتيك الدخولية العميقة، أي أنه يجب على التروتسكيين الدخول فورا في الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والستالينية، والتي، وفقا لهذا المنظور، ستدخل على الفور في أزمة، مما سيسمح للتروتسكيين بتشكيل أحزاب جماهيرية للأممية الرابعة بين عشية وضحاها.

لقد كذبت الوقائع كل هذه التوقعات. لقد استندوا إلى فهم خاطئ لما كتبه تروتسكي عام 1938، عندما قال إنه في غضون العشر سنوات المقبلة لن يتبق حجر على حجر في صرح الأمميتين القديمتين (أي الاشتراكية الديموقراطية والستالينية) وأن الأممية الرابعة ستصبح القوة الحاسمة على هذا الكوكب. لكن هذا المنظور، مثله مثل أي منظور آخر، كان له طابع مؤقت. ليست المنظورات الماركسية مخططات جامدة يجب على الأحداث أن تتوافق معها. هذا مفهوم مثالي ليس له أي شيء مشترك مع الديالكتيك المادي. يجب على الماركسيين أن يدرسوا الواقع الموضوعي بعناية ويعملوا على تحديث منظوراتهم باستمرار. يجب فحص منظوراتنا في ضوء التجربة وتعديلها، أو رفضها، إذا لزم الأمر، على أساس التجربة.

لقد استند تروتسكي في توقعاته، التي صاغها عام 1938، على مقارنات تاريخية مع الوضع الذي نشأ عن الحرب العالمية الأولى. لكن الحرب، كما أشار نابليون، هي المعادلة الأكثر تعقيدا بين جميع المعادلات. لقد تطورت الحرب العالمية الثانية بطريقة لم يكن في مقدور حتى عبقري مثل تروتسكي أن يتوقعها. وخاصة الانتصارات المذهلة التي حققها الجيش الأحمر والتي غيرت كل شيء. وبالمناسبة فحتى منظورات ستالين وهتلر وروزفلت وتشرشل أيضا فندها التطور الملموس للأحداث. لا يسمح لنا المجال هنا بأن نتطرق لهذا بمزيد من التفصيل. لكن من الممكن العثور على تحليل للتطورات التي عرفتها الرأسمالية العالمية بعد عام 1945 في كتابات تيد غرانت وخاصة Will There be a Slump? (1960).

لنقلها بصراحة: إن قادة الأممية الرابعة آنذاك قد أساءوا فهم الواقع الموضوعي الحقيقي الذي نشأ عن الحرب العالمية الثانية، وبسبب منظورهم الخاطئ دمروا الأممية الرابعة. لقد طرح إنشاء الدول العمالية المشوهة في دول أوروبا الشرقية، وانتصار الجيش الأحمر الصيني، مشاكل نظرية جديدة لقيادة الأممية الرابعة، ومرة ​​أخرى أظهرت القيادة عجزها الكامل عن فهم ما كان يحدث. في البداية أكدوا أن الأنظمة التي ظهرت في أوروبا الشرقية والصين كانت أنظمة رأسمالية. ثم، وبدون تقديم أي تفسير نظري لموقفهم السابق، تغيروا 180 درجة. وبين عشية وضحاها أعلنوا أن يوغوسلافيا، في عهد تيتو، بعد القطيعة مع ستالين صارت دولة عمالية سليمة. لقد كانت هذه هي نفس طريقة زينوفييف القائمة على الانطباعية السياسية والتذبذبات النظرية المستمرة وتغيير الخط، دون أي تفسير، من أ إلى ب والعكس.

موقف تيد غرانت

إن القرار الذي اعتمده الكونفرانس الأممي التمهيدي للأممية الرابعة، في أبريل 1946، (السلام الإمبريالي الجديد وبناء أحزاب الأممية الرابعة – أبريل 1946)[2]، تخللته نظرة خاطئة حول أن الأزمة الثورية وشيكة واستحالة حدوث انتعاش اقتصادي عام للرأسمالية، وبالتالي أكد على وجود احتمالات ممتازة لتطوير قوى الأممية الرابعة. كل هذا كان بالطبع خاطئا وأدى في النهاية إلى دخول المنظمة في الأزمات الواحدة تلو الأخرى، وانهيارها في النهاية.

كما أنهم كانوا مخطئين بنفس القدر في ما يخص منظورهم للستالينية والاتحاد السوفياتي. ففي عام 1946، كانت منظورات قيادة الأممية الرابعة تقول إنه بسبب «تظافر الضغط الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي والتهديدات العسكرية من جانب الإمبريالية الأمريكية والبريطانية»، يمكن للنظام الستاليني في الاتحاد السوفياتي أن ينهار. كان العكس هو الصحيح. حاول تيد غرانت، إلى جانب قيادة الحزب الشيوعي الثوري، تصحيح هذا التوقع الخاطئ. وقد نشرنا على موقعنا جميع الوثائق التاريخية المتعلقة بهذه المسألة وغيرها.

رأى الحزب الشيوعي الثوري البريطاني أنه بسبب توازن القوى الجديد في أوروبا الذي خلقه انتصار الجيش الأحمر، وبسبب ميزان القوى الطبقي الجديد، فإنه من المستحيل على الطبقات السائدة أن تفرض الردة الرجعية بشكل فوري. وصف الرفاق البريطانيون الأنظمة في أوروبا الغربية (فرنسا ، بلجيكا ، هولندا ، إيطاليا) بأنها أنظمة للثورة المضادة بقناع ديمقراطي، بينما أصر أمثال بيير فرانك على أن المنظور أمام أوروبا الغربية هو الدكتاتورية البونابرتية.

لقد حاول تيد غرانت، المنظر الأبرز للحزب الشيوعي الثوري، تصحيح المواقف الخاطئة لقيادة “الأممية الرابعة” آنذاك. وللحصول على سرد أكثر تفصيلا عن ذلك نقترح عليكم قراءة جميع المقالات المنشورة في صفحتنا The Fourth International. في ذلك الوقت، كتب تيد في رده على بيير فرانك ما يلي: «يوجد بين كوادر الأممية الرابعة رفاق لم يفهموا هذا الدرس بشكل كاف. إنهم يستمرون في العيش على “عائدات بعض التجريدات الجاهزة” بدلا من أن يعملوا على تدقيق أو تصحيح التعميمات السابقة». كان هذا هو جذر المشكلة.

تجاهلت القيادة حجج الفرع البريطاني وحافظت بشكل أعمى على موقفها الخاطئ. ضاعت هباء إشارات الرفاق البريطانيين إلى الوضع المتغير والحاجة إلى إعادة تقييم المنظورات السابقة. كما ضاعت هباء إشاراتهم إلى مظاهر الانتعاش الاقتصادي بعد الحرب. وضاعت هباء محاولاتهم أن يوضحوا لقادة الأممية أنه نظرا لأن حكومة حزب العمال في بريطانيا، في فترة ما بعد الحرب، كانت تنفذ معظم نقاط برنامجها، فإن شروط الدخولية في حزب العمال كانت غير متوفرة. لكن جميع حجج الحزب الشيوعي الثوري سقطت على آذان صماء. لقد كان غباء هؤلاء السادة كبيرا إلى درجة أنه عندما سُئل أحد ممثلي حزب العمال الاشتراكي الأمريكي، عام 1947، عن مدى صحة التوقع الذي طرحه تروتسكي عام 1938 بأنه في غضون عشر سنوات لن يتبقى هناك حجر على حجر في صرح الاشتراكية الديمقراطية والستالينية، رد بثقة إنه لم تتبق سوى سنة واحدة!

في رسالته المفتوحة إلى الفرع البريطاني للأممية الرابعة. (شتنبر/ أكتوبر 1950) وضح تيد غرانت الوضع العالمي الجديد الذي نشأ عن الحرب وحذر الأممية قائلا:

«لقد أدت هذه العوامل إلى تطور لا مثيل له، لم يكن من الممكن توقعه من قبل أي من المعلمين الماركسيين: امتداد الستالينية كظاهرة اجتماعية على أكثر من نصف أوروبا وعبر شبه القارة الصينية، مع إمكانية انتشارها على مستوى كل آسيا.

يطرح هذا مشاكل نظرية جديدة يتعين على الحركة الماركسية حلها. ففي ظل ظروف العزلة وضعف القوى، ستؤدي العوامل التاريخية الجديدة إلى خلق أزمة نظرية للحركة، مما يطرح على المحك حتى وجودها واستمرارها».

ليس هناك أدنى شك في أنه لو كان تروتسكي ما يزال على قيد الحياة عام 1945 ، لكان قد رأى على الفور ضرورة إعادة تقييم الوضع في ضوء الأحداث. لكن هؤلاء الذين كانوا يسمون بقادة الأممية الرابعة كانوا عاجزين عن القيام بذلك. إنهم ببساطة لم يكونوا على مستوى المهام التي يفرضها التاريخ. كانت الأمور بالنسبة لهم بسيطة للغاية: إذ كل ما كان عليهم فعله هو التكرار الحرفي لما كتبه تروتسكي عام 1938. أي أنهم لم يتعاملوا مع المنظورات بطريقة ماركسية، بل بطريقة ميتافيزيقية. لقد اقتصروا على تكرار غبي لما كتبه تروتسكي دون فهم جوهر منهجيته، بنفس الطريقة التي يكرر بها الببغاء الأصوات التي تشبه الكلام البشري، لكن دون أدنى فهم لمعانيها.

والحقيقة هي أن كل المواقف التي دافعت عنها القيادة “البابلوية” للأممية الرابعة بعد الحرب، بدعم كامل من لومبرت وهيلي، قد ثبت أنها خاطئة، وكل المواقف الجوهرية التي دافع عنها تيد غرانت، والحزب الشيوعي الثوري، ثبت أنها صحيحة. هذا ما لا يستطيع لومبرت وغلوكشتاين تحمله. ولذلك حاولوا لفترة طويلة إخفاء الحقائق عن أنصارهم وتزييف تاريخ الأممية الرابعة. وهذا هو السبب في أنهم يشوهون باستمرار مواقفنا ويسيئون تفسيرها في حواشي بائسة. إن التيار الذي يبني نفسه على أساس التزوير سينتهي به المطاف كحاشية بائسة على هامش التاريخ. وكما أشار تروتسكي فإن قاطرة التاريخ هي الحقيقة وليس الأكاذيب.

الدورة الاقتصادية والصراع الطبقي

ينسب منتقدونا الودودون إلى الحزب الشيوعي الثوري «لا سيما الموقف القائل بأن القوى المنتجة لديها القدرة على التطور، مما دفعهم إلى القول بأن الاشتراكية الديمقراطية ما يزال لها مستقبل تاريخي».

قد يكون مؤلف هذه السطور أميا من الناحية السياسية، لكن ذلك لا يبرر له بالتأكيد أن يعاقب المنطق واللغة الفرنسية ولا أن يشوه الماركسية!! ما الذي يعنيه هذا الهراء؟ إن القوى المنتجة تمتلك دائما “القدرة” على التطور، بنفس الطريقة التي يمتلك بها معظم الناس “القدرة” على التفكير. لكن مسألة هل ستنعكس تلك القدرة في حدوث تطور فعلي للإنتاج، أو في قدرة الأفراد على التفكير بالفعل، فشيء مختلف تماما. وفي حالة اللومبرتيين قد يكون الاحتمال الأخير مشكوكا فيه بشكل جدي.

كان لدى قادة الأممية الرابعة، بعد عام 1945، كما رأينا، منظورا خاطئا تماما، ليس فقط في ما يتعلق بالاقتصاد، بل وفي جميع المجالات الأخرى. يختار ناقدنا الودود بعناية مسألة واحدة فقط (تطور القوى المنتجة) لأنه يتخيل (بشكل خاطئ) أنه سيكون في أرض آمنة، وينسى كل البقية.

تنبأ بابلو وماندل وشركاؤهم بحدوث ركود وشيك (وحرب فورية، وصعود أنظمة بونابرتية وثورات). دعونا نسأل ناقدنا سؤالا مباشرا: هل كانت تلك المنظورات صحيحة – نعم أم لا؟ هناك إجابة واحدة ممكنة: لم تكن لتلك المنظورات أية علاقة مع الوضع الحقيقي. لقد كانت خاطئة في كل جانب من جوانبها، خاطئة من السطر الأول إلى الأخير. لا فائدة على الإطلاق من محاولة اللجوء إلى السفسطائية للتملص من هذه الحقيقة، التي تعتبر غير مستساغة بالنسبة للومبرت، لأنه (على عكس تيد غرانت) لم يكن يشارك بابلو “بعض الأفكار” فقط، بل كان متفقا معه بشكل كامل في جميع أفكاره.

لا يمكن فصل عنصر واحد فقط (قوى الإنتاج) عن منظور كان كله خاطئا تماما. لم يكن منظورهم عن الركود الفوري سوى جزء من افتقارهم العام إلى فهم السيرورات الحقيقية التي كانت تجري على الصعيد العالمي. كان قادة الأممية الرابعة ينكرون أي إمكانية لحدوث انتعاش اقتصادي، وبالتالي كانوا يتوقعون الاندلاع الوشيك للثورات (أو صعود الأنظمة الدكتاتورية البونابرتية، أو الحروب…). كانوا يتوقعون انهيار الاتحاد السوفياتي، وذلك عندما كان النظام الستاليني في روسيا قد خرج في الواقع قويا جدا من الحرب.

كانت إحدى النقاشات الرئيسية التي برزت مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية هي: هل سيكون هناك أي احتمال لازدهار الرأسمالية وانتعاشها؟ كان كانون وماندل وبابلو وهيلي، وغيرهم من قادة الأممية الرابعة آنذاك، قد استندوا إلى تفسير شكلي لتحليل تروتسكي (الصحيح) بأن الرأسمالية كانت “تحتضر”. لقد فسروا هذا (بشكل خاطئ) على أنه يعني أنه لن يكون هناك، من الآن فصاعدا، أي انتعاش اقتصادي.

كان هذا الموقف مخالفا تماما للمنهج الماركسي. وقد رد عليه لينين، قبل وقت طويل، عندما أشار، في جداله مع من كانوا يسمون بالشيوعيين اليساريين داخل الأممية الشيوعية، إلى أنه لا يوجد شيء اسمه “الأزمة النهائية للرأسمالية”. فطالما لم تقم الطبقة العاملة بإسقاطها، ستبقى الرأسمالية قادرة دائما على إيجاد مخرج حتى من أعمق الأزمات. لم يستبعد كل من لينين وتروتسكي الاحتمال النظري بأن تشهد الرأسمالية طفرة اقتصادية كبيرة في المستقبل، إذا لم تقدم البروليتاريا بديلا لها من خلال الثورة الاشتراكية.

كيف طرح تروتسكي مسألة الصراع الطبقي والدورة الاقتصادية؟ كان قد أبدى في مقاله Flood-tide، الذي كتبه عام 1921، الملاحظة التالية:

«يدخل العالم الرأسمالي فترة من الانتعاش الصناعي. تناوب الطفرات مع الركود قانون بنيوي للمجتمع الرأسمالي. وتشير الطفرة الحالية إلى إقامة توازن في البنية الطبقية. كثيرا ما تساعد الأزمة على نمو مزاج النزعة اللاسلطوية والإصلاحية بين العمال، أما الطفرة فستساعد على رص صفوف الجماهير العاملة»[3].

ما هي الاستنتاجات التي استخلصها تروتسكي من الانتعاش الاقتصادي؟ هل استنتج أنه يدل على نهاية الصراع الطبقي؟ هل كان يعني الانتصار الحتمي للإصلاحية، أم حدوث “انحراف يميني”، كما كان منتقدونا اللومبرتيون ليقولوا؟ كلا، على الإطلاق! يمكننا أن نرى من خلال الاقتباس أعلاه موقف تروتسكي. فعلى عكس بابلو ولومبرت، كان لتروتسكي موقف ماركسي تجاه المنظورات الاقتصادية. إن الفكرة القائلة بأن الركود يعني بالضرورة الثورة وأن الانتعاش يعني بالضرورة الثورة المضادة، فكرة خاطئة تماما. وهي نموذجية للشكلية غير الديالكتيكية التي هي السمة الحتمية لتفكير العصبويين اليساريين المتطرفين في كل الأزمنة.

كان على تروتسكي أن يشرح لـ”اليساريين” أبجديات الماركسية. فالعلاقة بين الدورة الاقتصادية وبين الصراع الطبقي ليست مباشرة وميكانيكية كما يتخيل اليسراويون، بل هي متناقضة وديالكتيكية. لقد شرح بطريقة متوازنة أنه يمكن للطفرة أن تكون لها آثار إيجابية في رص صفوف الطبقة العاملة وشفاء جروح هزائمها السابقة ورفع ثقتها بنفسها. دعونا نترك تروتسكي يشرح فكرته بنفسه:

«تدق الصحافة الرأسمالية الطبول احتفالا بنجاحات “إعادة التأهيل” الاقتصادي وآفاق عهد جديد من الاستقرار الرأسمالي. هذه النشوة لا أساس لها من الصحة، مثلما هي تلك المخاوف المقابلة من جانب “اليساريين” الذين يعتقدون أن الثورة يجب أن تنمو من التفاقم المستمر للأزمة. الواقع هو أنه بينما سيؤدي الازدهار التجاري والصناعي القادم من الناحية الاقتصادية إلى خلق ثروات جديدة للدوائر العليا من البرجوازية، فإن جميع المزايا السياسية ستكون لنا. إن الاتجاهات نحو التوحيد داخل الطبقة العاملة ليست سوى تعبير عن الإرادة المتزايدة للكفاح. وإذا كان العمال يطالبون اليوم، من أجل النضال ضد البرجوازية، أن يتوصل الشيوعيون إلى اتفاق مع المستقلين ومع الاشتراكيين الديمقراطيين، فغدا، وبقدر ما ستنمو الحركة بشكل جماهيري، سيقتنع هؤلاء العمال أنفسهم بأن الحزب الشيوعي وحده الذي يمنحهم القيادة في النضال الثوري. ترفع الموجة الأولى من المد جميع المنظمات العمالية، مما يفرض عليها التوصل إلى اتفاق. لكن المصير نفسه ينتظر الاشتراكيين الديمقراطيين والمستقلين: حيث سيتم ابتلاعهم الواحد تلو الآخر في الموجات التالية للمد الثوري.

هل هذا يعني -على النقيض من تصور أنصار النظرية الهجومية- أنه ليست الأزمة، بل الانتعاش الاقتصادي القادم هو الذي من المحتم أن يؤدي مباشرة إلى انتصار البروليتاريا؟ إن مثل هذا التأكيد القاطع لا أساس له. لقد سبق لنا أن شرحنا بالفعل أن العلاقة بين الوضع الاقتصادي وبين طبيعة الصراع الطبقي ليست ميكانيكية، بل ديالكتيكية معقدة. ويكفي لفهم المستقبل أننا ندخل فترة الانتعاش مسلحين بشكل أفضل بكثير مما دخلنا فترة الأزمة. فلدينا في أهم بلدان القارة الأوروبية أحزابا شيوعية قوية. ولا شك أن القطيعة التي يعرفها الوضع ستفتح أمامنا إمكانية شن هجوم -ليس فقط في المجال الاقتصادي، بل وفي المجال السياسي أيضا. سيكون من العقيم الدخول في تكهنات حول أين سينتهي هذا الهجوم. إنه قد بدأ للتو، وما زال ينمو.

قد يثير بعض السفسطائيين الاعتراض القائل بأنه إذا افترضنا أن الانتعاش الصناعي القادم لا يقودنا بالضرورة مباشرة إلى النصر، فإنه من الواضح أن دورة صناعية جديدة ستحدث، مما سيعني خطوة أخرى نحو استعادة الرأسمالية لتوازنها. وفي هذه الحالة ألن ينشأ بالفعل خطر عصر جديد من عودة الرأسمالية؟ يمكننا أن نجيب هذا على النحو التالي: إذا فشل الحزب الشيوعي في تحقيق النمو؛ إذا فشلت البروليتاريا في اكتساب الخبرة؛ إذا فشلت البروليتاريا في المقاومة أكثر فأكثر بطريقة ثورية حازمة؛ إذا فشلت في الانتقال في أول فرصة من الدفاع إلى الهجوم؛ عندها سوف تنجح بلا شك آليات التطور الرأسمالي، بمساعدة من مناورات الدولة البرجوازية، في عملها على المدى الطويل. ستتم إعادة بلدان كثيرة إلى البربرية؛ وعشرات الملايين من البشر سيموتون من الجوع، وقلوبهم مليئة باليأس، وعلى عظامهم سيستعيد العالم الرأسمالي نوعا جديدا ما من التوازن. لكن مثل هذا المنظور تجريد فقط. فهناك العديد من العقبات الضخمة التي تعرقل الطريق نحو هذا التوازن الرأسمالي المفترض: فوضى السوق العالمية، وتعطل الأنظمة النقدية، وتصاعد النزعة العسكرية، وخطر الحرب، وغياب الثقة في المستقبل. تبحث القوى الرأسمالية الأساسية عن سبل للهروب وسط أكوام من العقبات. لكن هذه القوى الأساسية نفسها تضرب الطبقة العاملة وتدفعها إلى الأمام. إن تطور الطبقة العاملة لا يتوقف حتى عندما تتراجع. لأنها، بينما تفقد المواقع، تراكم الخبرة وتقوي حزبها. إنها تسير إلى الأمام. إن الطبقة العاملة هي أحد شروط التطور الاجتماعي، وأحد عوامل هذا التطور، وهي، علاوة على كل ذلك، العامل الأكثر أهمية لأنها تجسد المستقبل.

إن المنحنى الأساسي للنمو الصناعي يبحث عن سبل تصاعدية. وتصير الحركة معقدة بسبب التقلبات الدورية، التي كانت تشبه التشنجات خلال ظروف ما قبل الحرب. من المستحيل بطبيعة الحال أن نتنبأ بشكل مسبق عند أي نقطة للتطور سيحدث مثل هذا المزيج من الظروف الموضوعية والذاتية التي ستنتج انقلابا ثوريا. كما أنه لا يمكن التنبؤ بما إذا كان ذلك سيحدث في سياق الانتعاش الوشيك، في بدايته، أو عند نهايته، أو مع انطلاق دورة جديدة. يكفينا أن إيقاع التطور يعتمد إلى حد كبير علينا وعلى حزبنا وعلى تكتيكاته. من الأهمية بمكان أن نأخذ في الاعتبار التحول الاقتصادي الجديد الذي يمكن أن يفتح مرحلة جديدة لرص الصفوف والإعداد لهجوم ظافر»[4].

أليس هذا واضحا تماما؟ يشرح تروتسكي هنا العلاقة الديالكتيكية المعقدة بين الدورة الاقتصادية وبين الصراع الطبقي، واللذان يكيفان بعضها البعض، لكن ليس بطريقة ميكانيكية. من الممكن أن يؤدي الركود إلى إحباط معنويات العمال ويؤجل التطورات الثورية لعدد من السنوات. وقد كان للركود الاقتصادي الذي أعقب هزيمة ثورة 1905 في روسيا مثل هذا التأثير، وكان تروتسكي قد توقع بشكل صحيح أن هناك حاجة إلى حدوث انتعاش اقتصادي قبل أن يعود العمال إلى السير في طريق الثورة مرة أخرى. وكان هذا بالضبط ما حدث في فترة 1911-1914.

تجدر الإشارة إلى أن تروتسكي يطرح، في الخلاصة التي سردناها أعلاه، الإمكانية النظرية لحدوث نهوض اقتصادي رأسمالي (“حقبة جديدة من استعادة الرأسمالية لتوازنها”) إذا فشلت الأحزاب الشيوعية في الاستيلاء على السلطة. لقد اعتبر ذلك احتمالا ضعيفا – منظورا مجردا- لأن المنظور الذي كان آنذاك هو انتصار الثورات الاشتراكية بقيادة الأممية الشيوعية. في عام 1921 لم تكن إمكانية الانحطاط البيروقراطي للثورة الروسية لتخطر على البال. لكن عزلة ثورة أكتوبر في ظروف التخلف المادي والثقافي المهول (بسبب خيانة قيادات الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية) أدت إلى الانحطاط الستاليني، الذي قوض الأممية الشيوعية باعتبارها أداة للثورة الاشتراكية. وهو ما أدى بدوره إلى هزيمة الثورات في الصين وألمانيا وإسبانيا وغيرها، الشيء الذي أدى بدوره مباشرة إلى الحرب العالمية الثانية.

إن الطريقة المتوازنة التي تعامل بها تروتسكي (وكذلك لينين، الذي كان له نفس الموقف) مع هذه المسألة تتناقض تماما مع الطريقة الطفولية التي تعامل بها “الشيوعيون اليساريون”، الذين كانت طريقتهم عبارة عن ابتذال ميكانيكي للماركسية. نفى “اليساريون” أي احتمال لإحياء القوى المنتجة، معتبرين أن أي فكرة من هذا القبيل ترقى إلى درجة التخلي عن المنظور الثوري والاستسلام للإصلاحية والاشتراكية الديمقراطية. وهاجموا كلا من لينين وتروتسكي بوصفهما “يمينيين” بسبب ارتكابهما لجريمة شرح حقائق الحياة لهم. لكن التطورات اللاحقة أظهرت أن لينين وتروتسكي كانا على حق وأن “الشيوعيين اليساريين” كانوا مخطئين بشكل يدعو للرثاء.

وكحاشية على ما قلناه، يجب أن نضيف أنه على الرغم من جدية تلك الخلافات السياسية، لم يخطر ببال لينين وتروتسكي أن يقترحا طرد “اليساريين” أو استخدام الجهاز الهائل للأممية الشيوعية لقمعهم. لقد استخدما النقاش السياسي لتعليم كوادر الأممية وأجابا بصبر على حجج معارضيهم. كانت تلك هي الطريقة الصحيحة، اللينينية، في التعامل مع الخلافات داخل المنظمة. والتي تتناقض كليا مع طريقة لومبرت-غلوكشتاين.

“قل الحقيقة!”

لم يكن الوضع الذي نشأ بعد عام 1945 مشابها للوضع الذي جاء بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. أجبرت انتصارات الجيش الأحمر، والموجة الثورية التي اجتاحت أوروبا، الإمبريالية الأمريكية على دعم الأنظمة الرأسمالية الأوروبية خوفا من “خطر الشيوعية”. ومن ناحية أخرى، نجحت الأحزاب والمنظمات الاشتراكية الديمقراطية والستالينية، على عكس توقعات تروتسكي عام 1938، في أن تضع نفسها على رأس الحركة العمالية وتخرجها عن مسارها. حدثت الثورة المضادة بقناع ديمقراطي (مثلما حدث سابقا في ألمانيا في 1918-1920).

كان هذا هو الشرط السياسي المسبق لحدوث إنتعاش اقتصادي واستقرار الرأسمالية، مما عزز سيطرة الاشتراكية الديمقراطية على الجماهير في بريطانيا وبلدان أخرى. ومن ناحية أخرى زادت الانتصارات التي حققتها الستالينية في أوروبا الشرقية والصين، بعد الانتصارات المذهلة للجيش الأحمر خلال الحرب، من تعزيز الأوهام في الستالينية بين الجماهير. وهكذا، وعلى عكس توقعات تروتسكي، تعزز موقع الستالينية والإصلاحية لمرحلة تاريخية كاملة.

شرح تيد غرانت أسباب ازدهار الرأسمالية بعد الحرب بالعبارات التالية:

«ما هي إذن الأسباب الأساسية للتطورات التي عرفها اقتصاد ما بعد الحرب العالمية الثانية؟

1- الفشل السياسي للستالينيين والاشتراكيين الديمقراطيين، في بريطانيا وأوروبا الغربية، خلق المناخ السياسي الملائم لانتعاش الرأسمالية.

2- خلقت آثار الحرب، بتدميرها للسلع ورأس المال، سوقا كبيرة (للحرب آثار مشابهة لآثار الركود في تدمير رأس المال، لكنها أعمق منه). ولم تختف هذه الآثار، وفقا لإحصائيات الأمم المتحدة، إلا عام 1958.

3- ساعدت خطة مارشال والمساعدات الاقتصادية الأخرى على انتعاش أوروبا الغربية.

4- الاستثمار المتزايد بشكل هائل في الصناعة.

5- تطور الصناعات الجديدة: البلاستيك والألمنيوم والصواريخ والإلكترونيات والطاقة النووية والمنتجات الفرعية (By-products).

6- زيادة إنتاجية الصناعات الجديدة: المواد الكيميائية والألياف الصناعية والمطاط الصناعي والبلاستيك، والارتفاع السريع في المعادن الخفيفة والألمنيوم والمغنيسيوم والمعدات المنزلية الكهربائية والغاز الطبيعي والطاقة الكهربائية وأنشطة البناء.

7- الحجم الهائل للرأسمال الوهمي، الناشئ عن نفقات التسلح، والتي تبلغ 10% من الدخل القومي في بريطانيا وأمريكا.

8- السوق الجديدة للرساميل والمنتجات الهندسية، التي أوجدها تراجع قوة الإمبريالية في البلدان المتخلفة، والتي أعطت للبرجوازيات المحلية فرصة متزايدة لتطوير الصناعة على نطاق أكبر من أي وقت مضى.

9- كل هذه العوامل تتفاعل مع بعضها البعض. فالطلب المتزايد على المواد الخام، بفعل تطور الصناعة في البلدان الرأسمالية المتقدمة، يؤثر بدوره على البلدان المتخلفة، والعكس صحيح.

10- إن التبادل التجاري المتزايد، بين البلدان الرأسمالية، وخاصة في الرساميل والمنتجات الهندسية، نتيجة لزيادة الاستثمار الاقتصادي، يعمل بدوره كحافز.

11- الدور الذي لعبه تدخل الدولة في تحفيز النشاط الاقتصادي»[5].

كيف تعامل قادة الأممية الرابعة مع هذا الوضع؟ إنهم لم يفهموا شيئا. تشبه حججهم نسخة كربونية لحجج من كانوا يسمون بالشيوعيين اليساريين في الفترة ما بين 1920-1924. لقد أكدوا بشكل قاطع أن الاقتصاد العالمي سيظل في “ركود وانحسار”. وحتى عندما صدمت الحقائق أنوفهم ، وبدأ الاقتصاد الرأسمالي في الانتعاش، رفضوا أخذ ذلك في الاعتبار. وفي أواخر عام 1947 ، عندما لم يعد هناك أي شخص جدي ينكر وجود انتعاش اقتصادي في أوروبا، استمروا هم يرفضون الاعتراف بخطئهم. ثم، وفي محاولة منهم لتغطية مؤخرتهم العارية، أعلنوا أنه على الرغم من وجود بعض النمو الاقتصادي فإن الرأسمالية لم تستطع الوصول إلى مستوى الإنتاج الذي كانت تحققه قبل الحرب.

كان هذا تأكيدا تعسفيا وغير علمي على الاطلاق، ولم يكن يقوم لا على أساس النظرية الاقتصادية الماركسية ولا على أساس الوقائع. كان ذلك مجرد محاولة منهم لإنقاذ بعض ماء الوجه أمام ظرف موضوعي كان يتناقض بشكل كامل مع توقعاتهم. بالنسبة لهؤلاء الناس لم يكن السؤال الأهم هو تعليم الكوادر، بل كل ما كان يهمهم هو الحفاظ على الهيبة الشخصية للقادة، وهي السياسة الكارثية ذات النتائج الكارثية! أما من الناحية العملية فسرعان ما كسر نمو القوى المنتجة “القيد” الذي فرضوه عليه، ببلادتهم، ودخلت الرأسمالية في انتعاش اقتصادي استمر لأكثر من عقدين.

لو أن الماركسية كانت عبارة عن مجموعة من الصيغ الجاهزة، بدلا من المنهج العلمي، لكان في مقدور أي عصبوي تافه أن يصير عظيما مثل ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي مجتمعين معا. لكن الأمور ليست بهذه البساطة.

أما الماركسيون البريطانيون، الملتفون حول قيادة الحزب الشيوعي الثوري، وباستخدام منهج ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي، فقد شككوا في ذلك الموقف وكانوا أول من أشار إلى أن الرأسمالية العالمية كانت تدخل فترة انتعاش. وأوضحوا ضرورة إعادة توجيه قوى الأممية الرابعة على أساس تحليل ما كان يحدث بالفعل.

القوى المنتجة

لقد طور بيير لومبرت حول هذه المسألة مجموعة غريبة للغاية من الأخطاء العصبوية. فقد اكتفى، هو وأتباعه، بالتمسك ببساطة بالموقف السابق المتمثل في إنكار وجود أي تطور للقوى المنتجة. ومن المدهش أنهم ما يزالون متمسكين بهذا الموقف حتى يومنا هذا. يبدو أنهم يخشون من الفكرة القائلة بأن القوى المنتجة يمكنها أن تتطور بالفعل، لأنهم يشعرون أن هذا سيؤدي إلى الاستنتاج بأن الثورة مستحيلة. إن مثل هذا الاستنتاج لا مبرر له على الإطلاق، إنه صورة كاريكاتورية ميكانيكية للماركسية رد عليها لينين وتروتسكي، منذ زمن بعيد، كما رأينا.

لقد شرح ماركس، منذ زمن بعيد، أن تطور القوى المنتجة هو الذي يجعل الثورة حتمية. إنه يقوي الطبقة العاملة وفي النهاية يزيد من حدة التناقضات داخل النظام. صحيح أن تطور القوى المنتجة في أوروبا منذ عام 1945 قد تسبب في مشاكل خطيرة للحركة الثورية. كان الأساس الموضوعي لعزلة الطليعة البروليتارية وانهيار الأممية الرابعة. لكنه أدى أيضا إلى تقوية الطبقة العاملة وشفاء جراح هزائم الماضي. لقد قضى بلا رحمة على الفلاحين في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وألمانيا، وبذلك أضعف القاعدة الاجتماعية للردة الرجعية.

إن التطور الهائل للقوى المنتجة في الصين في وقتنا الحاضر، ومن خلال تعزيزه للبروليتاريا، يخلق الظروف للمد الثوري القوي خلال الفترة القادمة. لا يجب أن ننسى أن أكبر إضراب عام ثوري في التاريخ، أي ذلك الذي حدث في فرنسا عام 1968، جاء في ذروة النهوض الاقتصادي لما بعد الحرب. وهذا دليل كاف على أنه ليس من الضروري نهائيا إنكار إمكانية تطور القوى المنتجة في ظل الرأسمالية من أجل الحفاظ على سياسة ومنظور ثوريين.

كان قادة الحزب الشيوعي الثوري هم الوحيدين الذين حافظوا على البوصلة وتبنوا مسارا ثابتا قائما على الأفكار الحقيقية للينين وتروتسكي. وبسبب هذه “الجريمة”، يتعرضون الآن لهجوم أصدقائنا الباريسيين ويتهمون بأنهم “يمينيون”.

هذا ليس صدفة، فكما سبق لنا أن رأينا بالفعل، كان الشيوعيون “اليساريون” قد وصفوا لينين وتروتسكي بأنهما “يمينيان”، وللسبب نفسه تماما. كان ماركس محقا عندما قال إن التاريخ يعيد نفسه، أولا كمأساة ثم كمهزلة. لقد تسبب الشيوعيون “اليساريون” في الكثير من الأضرار بسبب تكتيكاتهم وسياساتهم اليسراوية المتطرفة، مثل “نظرية الهجوم” التي تسببت في هزيمة فادحة للطبقة العاملة الألمانية عام 1921. كانت تلك مأساة. لكن حماقات لومبرت وهيلي وبابلو وكانون وفرانك لم تكن سوى مهزلة. لم يكن لديهم ذلك التأثير داخل الطبقة العاملة الذي كان يتمتع به “اليساريون” الألمان من أجل اختبار “نظرياتهم” في الواقع العملي. وذلك لحسن الحظ ربما.

استمرت مرحلة الانتعاش الاقتصادي الطويلة حتى حدث أول ركود جدي في 1973- 1974. كانت الرأسمالية، طيلة فترة كاملة، قادرة، على الأقل في البلدان الرأسمالية المتقدمة، على منح الامتيازات والإصلاحات للعمال (الخدمات الصحية العمومية، خطط المعاشات التقاعدية، إلخ). وفي مثل تلك الظروف كان القول بأن الرأسمالية لا يمكنها أن تتعافى وأن الثورة على الأبواب تناقضا صارخا مع الواقع. وهكذا تسببوا في نشر الارتباك بين صفوف كوادر الأممية الرابعة.

قال لينين ذات مرة إن اليسراوي المتطرف هو انتهازي خائف من انتهازيته. وهذا ما يؤكده كل التطور الذي عرفته جميع التيارات التي نشأت حول القيادة القديمة للأممية الرابعة. رأينا، على مدى العقود الماضية، كل ما يمكن تصوره (وما لا يمكن تصوره) من الانحرافات اليسراوية المتطرفة والانتهازية. تتأرجح هذه الجماعات باستمرار من اليسار المتطرف إلى الانتهازية ثم العكس مرة أخرى. فبعد أن بدأوا برسم صورة كاريكاتورية عن مواقف تروتسكي بافتراضهم أن كل نقطة وكل فاصلة كتبها العجوز كانت صحيحة حرفيا، انتقلوا بعد ذلك إلى القول بأن “الأفكار القديمة” كانت عديمة الجدوى وطوحوا بها عرض الحائط. كانت الحالة القصوى هي حزب العمال الاشتراكي الأمريكي، الذي لم يعد يدعي أنه تروتسكي ولو حتى بالكلمات. لكن الآخرين، في الواقع، ليسوا أفضل حالا.

لم يقبل هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم “تروتسكيون” أنه كان هناك انتعاش إلا عندما أصبح من الواضح تماما أن الرأسمالية كانت تشهد انتعاشا اقتصاديا قويا. عندها، وكما هي العادة دائما، قاموا بشقلبة 180 درجة وانتقلوا إلى الطرف المقابل. قام التيار المتحلق حول إرنست ماندل – والذي أصبح يسمى بالأمانة العامة للأممية الرابعة (USFI)- بتطوير منظور لعقود من السلام الاجتماعي في البلدان الرأسمالية المتقدمة، بناء على فكرة أن الرأسمالية قد حلت، بطريقة ما، بعض تناقضاتها الأساسية من خلال الكينزية وتدخل الدولة. بل إنهم تبنوا فكرة “تبرجز” الطبقة العاملة. لذا فقد فاجأتهم تماما أحداث 1968 في فرنسا.

أما بالنسبة للومبرت وأتباعه، فقد تفاعلوا مع الموقف بمجرد إغلاق عيونهم عن الواقع، مثلما يقوم طفل خائف بإخفاء رأسه تحت الغطاء لكي لا يرى الأشباح. نود أن نسأل أصدقاءنا اللومبرتيين سؤالا: هل تطورت القوى المنتجة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟ أم أنها ما تزال عند المستوى الذي كانت عليه عام 1938 كما يدعون؟ الجواب واضح لأي شخص ينظر إلى الإحصائيات. ولكي يتضح الأمر يكفي المرء ببساطة أن يعيش في العالم الواقعي. لكن مشكلة جميع العصبويين هي بالتحديد أنهم لا يعيشون في هذا العالم.

واعتمادا على منطقهم المستمد من عالم أليس في بلاد العجائب، وضع اللومبرتيون قياسا منطقيا أنيقا: أ) توقع غرانت ازدهارا اقتصاديا بعد الحرب، ب) لذلك اعتقد أن الإصلاحية والاشتراكية الديمقراطية قادرتان على البقاء، ج) لذلك فهو يدافع عن الاشتراكية الديمقراطية. يا له من منطق يتجاوز حدود الفهم. لكن دعونا نطرح على ناقدنا الودود سؤالا مباشرا آخر: هل استمر تأثير الاشتراكية الديمقراطية داخل الحركة العمالية العالمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، نعم أم لا؟ إن هذا السؤال يجيب عن نفسه بنفسه، بالنسبة لمن يسكنون كوكب الأرض، أما بالنسبة للكائنات العصبوية الفضائية، فإنه لا يمكننا التأكد من ذلك.

إن المسألة بسيطة جدا حقا. كان الانتعاش الاقتصادي القوي بين عامي 1948 و 1973 هو بالضبط القاعدة المادية التي قامت عليها الأوهام الإصلاحية داخل الحركة العمالية. لقد سمح الانتعاش الاقتصادي، في البلدان الرأسمالية المتقدمة على الأقل، باستقرار اجتماعي وسياسي معين. كانت تلك هي الظروف التي عززت بشكل كبير نفوذ الاشتراكية الديمقراطية داخل الحركة العمالية. إن عدم أخذ ذلك في الاعتبار يعني عدم رؤية الواقع. وهذا يعني أن القوى الماركسية الحقيقية الصغيرة كانت محكومة بالعزلة عن الجماهير والعمل في ظروف صعبة طوال فترة تاريخية كاملة. كان هذا هو السبب الموضوعي لفشل الأممية الرابعة في أن تتطور بالطريقة التي توقعها تروتسكي عام 1938. لقد كنا نسبح ضد التيار.

لم يكن موقف الحزب الشيوعي الثوري يتضمن، بأي حال من الأحوال، أي أوهام حول صلاحية النظام الرأسمالي. لقد ذكروا ببساطة ما كان يحدث بالفعل. لقد فهموا أن الرأسمالية تمر بمرحلة انتعاش مؤقتة وأن الأزمة ستندلع مرة أخرى في نهاية المطاف. رغم أنهم لم يكونوا يتخيلون أن الانتعاش الاقتصادي سيستمر كل تلك المدة التي استمرها فعلا. كما فهموا أن هذا الانتعاش سيؤدي مؤقتا إلى تعزيز الأوهام الإصلاحية بين صفوف الحركة العمالية. وفي الواقع تعزز نفوذ الإصلاحية لفترة تاريخية كاملة، في حين تعرضت قوى الماركسية الحقيقية (التروتسكية) للعزلة. هذه حقيقة لا جدال فيها. لكن السبب الحقيقي وراء تدمير الأممية الرابعة، في تلك الفترة، لا يمكن تفسيره بالاقتصار على الشرط الموضوعي الصعب.

الصعوبات الموضوعية ليست سوى نصف القصة. لكن لا يمكننا أن نهمل دور العامل الذاتي ونوعية القيادة. كان الدور الذي لعبته “القيادة” حاسما وسلبيا بشكل كامل. إن القاعدة الأولى للمادية الجدلية هي: قل الحقيقة دائما. ينطلق الماركسيون من الوضع الحقيقي، مهما كان غير مستساغ. ومن أجل إعادة توجيه قوات الأممية الرابعة ، كان من الضروري للغاية أخذ الشرط الموضوعي الجديد بالاعتبار. وهذا ما عجزت قيادة الأممية الرابعة عن القيام به. لقد أثبتت أنها ليست في مستوى احتياجات الوضع، ونتيجة لذلك ارتكبت سلسلة كاملة من الأخطاء التي دمرت الأممية.

خلال الحرب تكون أهمية الجنرالات الجيدين حاسمة عندما يكون الجيش بصدد التقدم. لكن تلك الأهمية تصير أكثر حسما عندما يكون الجيش مضطرا إلى التراجع. ففي مثل تلك الظروف يمكن للجيش، الذي يتوفر على جنرالات جيدين، أن يتراجع بشكل صحيح، مع إبقاء خسائره عند الحد الأدنى، ويتمكن من تجميع صفوفه، والاستعداد لهجوم جديد عندما تسمح الظروف بذلك. لكن الجنرالات السيئين سيحولون التراجع دائما إلى هزيمة ساحقة. وهذا ما حدث للأممية الرابعة.


هيئة تحرير موقع الدفاع عن الماركسية
26 أكتوبر 2006


هوامش:

[1] “A propos de la politique du courant Grant-Woods”

[2] The New Imperialist Peace and the Building of the Parties of the Fourth International – April 1946

[3] The First Five Years of the Communist International, vol. 2, p. 74

[4] ibid., pp. 83-4

[5] Will there be a slump?