الوضع الدولي ومهام المناضلين الماركسيين

Arabic translation of The International Situation and Perspectives (August 13, 2007)

  شرح لينين أن السياسة هي تكثيف للاقتصاد. ويجد الاضطراب العام الذي يعرفه النظام الرأسمالي تعبيرا عنه في أسواق المال العالمية. قلق المستثمرين يظهر في الأزمات الدورية لأسواق المال.

  لا يزال الاقتصاد الأمريكي هو المحرك الرئيسي للاقتصاد العالمي. لقد تمكن من التعافي بعد انفجار فقاعة الأسواق المالية سنة 2000. لكن الاقتصاديين صاروا يتحدثون اليوم عن نمو بطيء أو ركود. لقد تمكن الاقتصاد الأمريكي لحد الآن من تلافي الركود، لكن هناك تباطؤ في النمو. إذ لم ينمو سوى بـ 0,6% خلال الربع الأول.

  يوم 29 يونيو كتبت صحيفة الإيكونوميست: « هناك العديد من الإشارات التحذيرية. سوق العقار، الذي كان طيلة مدة طويلة ركيزة الازدهار الاقتصادي الأمريكي، صار ينهار الآن. العجز الذي يعرفه سوق الإقراض يتزايد بشكل يدعو إلى القلق أكثر من أي وقت مضى. معدل التضخم، الذي يستثني الغذاء والطاقة، ليس راكدا: صارت أسعار المواد الاستهلاكية أعلى بـ 2,2% خلال شهر ماي، مقارنة مع نفس الفترة من السنة الماضية. إضافة إلى تباطؤ نمو الناتج الداخلي الخام، هذا المزيج يجعل المستهلكين قلقين.»

  يعتبر ارتفاع معدلات الفائدة من بين المسائل التي تقلق المستثمرين، وهو الارتفاع الذي يتزامن مع ذروة الازدهار. إلا أنه من المستحيل أن نكون دقيقين فيما يخص توقيت الدورة الاقتصادية. كل ما يمكننا قوله هو أن حدوث ركود اقتصادي في الولايات المتحدة مسألة حتمية. ليس الاقتصاد علما دقيقا، والنظام الرأسمالي نظام فوضوي، من المستحيل توقع سيرورته بشكل دقيق.

  هناك ارتباك أكبر بين صفوف الاقتصاديين البورجوازيين، الذين يعبرون عن وجهات نظر متناقضة بخصوص الأوضاع. فمرة يتحدثون عن الانكماش، ثم يحذرون من خطر التضخم. إن عودة التضخم صار مسألة واقعية بالنسبة لجميع البلدان الرئيسية. الشيء الذي يعتبر ظاهرة ملازمة للازدهار، إلى جانب ارتفاع كبير للأرباح والأجور أيضا. لكن خلال الدورة الاقتصادية الحالية يعتبر ارتفاع الأجور هو ما ينقص.

  ديون المستهلكين

  صحيح أنه لم يحدث خلال العشرين سنة الأخيرة أي ركود اقتصادي حاد، فلم يحدث الركود سوى مرتين وكان ضعيفا نسبيا. يشكل هذا جزءا من مشاكل البورجوازيين. إن خطأ الاقتصاديين البورجوازيين هو أنهم يستخلصون أن نفس الميول التي لوحظت في المرحلة الماضية ستستمر في المستقبل. إنهم لم يتعلموا الحقيقة الأساسية التالية: أن فيما يتعلق بالاقتصاد ليس الماضي دليلا على المستقبل. جميعهم تخدروا بشعور خاطئ بالاطمئنان. يعتقدون أن حدوث انهيار اقتصادي عالمي مسألة غير ممكنة. إن هذا الاعتقاد خاطئ كليا.

  لقد كان هناك استقرار نسبي للتضخم خلال الخمسة عشرة سنة الأخيرة. ويرجع هذا إلى تداخل عدة عوامل: في المرتبة الأولى نجد العولمة نفسها، التي تمارس ضغطا على الأجور والأسعار. نتيجة لذلك صار الرأسماليون والاقتصاديون في مأمن من التضخم. وقد سمحت البنوك المركزية للسياسة المالية بأن تصير جد مرنة، خالقة هكذا المشاكل للمستقبل على شكل فقاعة ديون. مستقبلا ستعود جميع الدجاجات إلى الخم لكي تضع بيضها. سوف نشهد أزمة فائض إنتاج عالمية، سيزيد من سوئها انكماش حاد للديون وانهيار أسعار العقارات والأسواق المالية.

Alan Woods  لقد شجع إنفاق المستهلك الأمريكي نمو الناتج الداخلي الخام، لكن هذا تم على حساب معدل ادخار شخصي سلبي، ونسبة متصاعدة للديون المنزلية وعجز هائل في الحساب الجاري. حتى مع تباطؤ أسواق العقارات لا يزال الأمريكيون ينفقون. الشيء الذي لا يمكن تحمله.

  إلا أنه خلال المرحلة الحالية يتصرف الرأسماليون واقتصاديوهم مثل مجموعة من السكارى أثناء حفلة ماجنة: إنهم يستمتعون إلى أقصى الحدود ويعتقدون بسبب حالة الثمالة التي يوجدون عليها أن الحفلة ستستمر إلى الأبد. مثل هؤلاء سيستفيقون حتما والصداع يشق رؤوسهم. قبل عشرة سنوات حذر آلان غرينسبان من "الإفراط الغير عقلاني" في أسواق البورصة، لكنه بعد ذلك شجعها، وأضاف لها شيئا من "الإفراط الغير عقلاني" الخاص به.

  لقد ألقت البورجوازية خلال المرحلة الأخيرة بالحذر عرض الحائط. لقد تصرفت بشكل لا مسئول من وجهة النظر الرأسمالية. لقد كان الجمهوريون فيما مضى حزب الميزانية المتوازنة والدولار القوي والمسئولية المالية الصلبة. وهو ما لم يعد يحدث اليوم. لقد حكم الجمهوريون من خلال ازدهار الاستهلاك ودولار منهار ومعدل عجز هائل. عندما وصل جورج بوش إلى السلطة كان إنفاق الحكومة يساوي 18,5% من الناتج الخام، لكنه صار سنة 2006 يساوي 20,3%.

  أغلب الزيادات كانت مبنية على معدلات إنفاق تقديرية، مع ارتفاع النفقات العسكرية بالثلث. ثم هناك المنح الضخمة المقدمة للمزارعين الأمريكيين ونفقات القطاع الصحي والضمان الاجتماعي. كل هذا يخلق عجزا بنيويا ويغرق الأجيال القادمة في الولايات المتحدة تحت ثقل ديون هائلة. كما أنه يلغم أسس الآليات التي استخدمتها البورجوازية في الماضي للتخلص من الركود.

  مكانة الولايات المتحدة في العالم

  لا تزال الولايات المتحدة أكبر قوة اقتصادية في العالم. ومن ثم فإن حدوث ركود اقتصادي فيها سيكون له تأثيرات عميقة في كل مكان. صحيح أن الولايات المتحدة فقدت بعض المواقع لصالح بلدان أخرى. لقد كانت أكبر دولة مصدرة في العالم، لكن تجاوزتها في البداية ألمانيا والآن تجاوزتها الصين، التي تجاوزت صادرات بضائعها صادرات الولايات المتحدة خلال النصف الثاني من السنة الماضية.

  الدولار يفقد مكانته المسيطرة في التمويل العالمي. هناك الآن من أوراق الأورو في التداول أكثر مما هناك من الدولارات. وقد عوض الأورو في سوق السندات العالمي، مكانة الدولار كعملة رئيسية. وحسب Financial Times فقد خطفت أوروبا (ضمنها روسيا) الأضواء عن رسملة سوق وول ستريت.

  حسب مجلة Fortune لا تزال الشركات الأمريكية في مقدمة أكبر الشركات في العالم، حيث وضعت شركة إكسون موبيل في المرتبة الأولى سنة 2006. حققت شركة أرامكو، في الواقع، بالرغم من كونها غير مصنفة، أكبر الأرباح. تكاد شركة طويوطا أن تتجاوز شركة جنرال موتورز باعتبارها أكبر شركة سيارات في العالم. سنة 2006 تمكنت الصين للمرة الأولى أن تتجاوز الولايات المتحدة في صناعة السيارات. الشركة اليابانية طويوطا قريبة من إنتاج عدد سيارات أكبر مما تنتجه جنرال موتورز. والأهم هو أن الصين تحقق نموا أسرع بثلاثة مرات من الولايات المتحدة.

  هذه النسبة دفعت بالعديد من الملاحظين إلى توقع أن الصين ستتجاوز الولايات المتحدة. يتوقع غولدمان ساشز أن الناتج الصيني (بمعدلات سوق الأسهم) سيتجاوز نظيره الأمريكي مع حلول سنة 2027. ويعتقد البعض أنه على أساس تعادل القوة الشرائية، سيحدث هذا في غضون أربعة سنوات فقط. إلا أن مثل هذه التوقعات تفتقر إلى الأساس العلمي. نفس الشيء قيل عن اليابان في السابق، لكن الاقتصاد الياباني انهار واحتاج إلى 20 سنة لكي يتعافى.

  قبل وقت طويل من أن تتمكن الصين من تجاوز الولايات المتحدة سيعرف اقتصادها أزمة كبيرة، مثلها مثل التي حدثت لليابان. لا يمكن للسوق المحلية الصينية أن تمتص الاستثمارات الهائلة في القطاع الصناعي (بالرغم من أن سوقها تتمدد بسرعة). تتجه الصين، خلال المرحلة المقبلة، نحو أزمة فائض إنتاج كلاسيكية، مما سيحضر الشروط لتطورات متفجرة في الصين.

  تعتبر الصين خلال المرحلة الحالية البلد الرئيسي الوحيد في العالم الذي يتطور فعلا. إلا أن هذا يقوي ساعد البروليتاريا الصينية الجبارة. إن حدوث ركود في الولايات المتحدة، بل وحتى تباطؤ طويل الأمد في النمو، سوف يؤدي إلى حدوث انهيار في الصين مما سيكون له آثار انعكاسات هائلة في آسيا وعلى الصعيد العالمي.

  هل يمكن لآسيا أن تنقذ العالم؟

  بعض الاقتصاديين البورجوازيين يمنون أنفسهم بأمل أن حدوث انتعاش للنمو الاقتصادي في أوروبا والصين واليابان سيحد من آثار الأزمة الأمريكية. لكن الصين تعتمد على السوق الأمريكية وباقي دول آسيا تعتمد على الصين. وهكذا فإنه في آخر المطاف كل العالم يعتمد على ازدهار الاستهلاك في الولايات المتحدة. لكن هذا لا يمكنه أن يستمر. يحاول الاقتصاديون الذين يواجههم احتمال حدوث تباطؤ اقتصادي، أن يخلقوا نوعا من التفاؤل من خلال الادعاء بأن ركود الاقتصاد الأمريكي سيوازنه نمو الطلب في آسيا، التي حققت، حسب بعض التقديرات، أكثر من نصف النمو العالمي منذ 2001.

  لكن هذا الادعاء يتغاضى عن حقيقة أن النمو في آسيا قام أساسا على قاعدة التصدير إلى أمريكا، بينما تراجع الطلب الداخلي في المنطقة. تعاني آسيا من فائض للحساب الجاري يتجاوز 400 مليار، مما يبين أنها تساهم في العرض العالمي أكثر مما تساهم في الطلب. إذا ما انهار الطلب الأمريكي سيتباطأ نمو التصدير والإنتاج في آسيا بشكل حاد، وهذا بدوره سيؤثر بحدة على الصين.

  تشكل الصادرات 40% من الناتج الداخلي الصيني، بالرغم من أن نمو الناتج الصيني مؤخرا تأتى أساسا من الطلب الداخلي، الذي ارتفع بمعدل سنوي يساوي 9% خلال السنوات الأخيرة. الإنفاق الحقيقي للمستهلك في الصين ارتفع بمعدل سنوي يتجاوز 10% خلال العقد الأخير، مما يجعله الأسرع في العالم وأسرع كثيرا من نظيره في أمريكا (انظر الجزء الثاني).

  صحيح أن الاقتصاد الياباني يعرف انتعاشا. ينشر الصناعيون اليابانيون الآن تقارير عن عدم كفاية القدرة الإنتاجية للمرة الأولى منذ 1991 ويخططون للرفع من إنفاق الرساميل بـ 17% خلال هذه السنة وإلى حدود مارس. أمريكا لا تستقبل سوى 23% من صادرات اليابان، أقل من حوالي 40% من النسبة التي كانت تستقبلها أوائل الثمانينات، الشيء الذي يخفي التهديد الذي يواجه الاقتصاد الياباني من احتمال حدوث ركود اقتصادي في الولايات المتحدة. الشركات اليابانية (مثلها مثل نظيرتها الجنوب كورية والتايوانية) ترسل إلى الصين الكثير من الأجزاء من أجل تجميعها لكي يتم بعد ذلك تصديرها إلى أمريكا كمنتجات كاملة. فوق كل هذا إذا ما غرق الاقتصاد الأمريكي سيجر الدولار معه إلى القاع مما سيؤدي إلى الضغط أكثر فأكثر على المصدرين الأسيويين.

  إضافة إلى ذلك ترزح اليابان تحت وطأة دين عمومي ثقيل ومن ثم فإنها ليست في موقع يؤهلها "للخروج من أزمتها" عبر سياسة العجز المالي. تايوان، حيث الطلب الداخلي ضعيف، تعاني بدورها من عجز كبير في الميزانية.

  ومن ثم ليس هناك من أساس صلب للاعتقاد بأنه يمكن للاقتصادات الأسيوية أن "تنجو" من تباطؤ الاقتصاد الأمريكي. بالرغم من أن صادرات الصين إلى أمريكا تناقصت من 34% من مجمل صادراتها سنة 1999، إلى 25% اليوم (وهو ما تعدله عملية إعادة التصدير التي تتم عبر هونغ كونغ)، فإنه لا يزال لانهيار حاد في الطلب في الولايات المتحدة آثار جدية على الصين..

  سيضر نمو أبطأ للاقتصاد الأمريكي بالصين والهند واليابان، لكنه سيضرب، بقوة أكبر، الاقتصادات الآسيوية الأصغر، من قبيل سنغافورة والتايوان وهونغ كونغ، الأكثر اعتمادا على الطلب الخارجي. إلا أن كل آسيا متداخلة فيما بينها وقد بين انهيار 1997 أنه بمجرد ما تبدأ الأزمة فإنها ستنتقل من بلد إلى الآخر.

  هيمنة السوق العالمية

  من الغباء التفكير في إمكانية تفكيك الاقتصاد العالمي إلى اقتصادات معزولة عن بعضها البعض، لكي لا يكون للركود في الولايات المتحدة تأثيرات هامة. الاقتصاديون البورجوازيون الذين يدافعون عن هذه الفكرة يناقضون كل ما سبق لهم أن كتبوه بالأمس بخصوص العولمة. في الواقع، الاقتصاد العالمي اليوم أكثر تداخلا مما كان عليه في أي وقت مضى. النظام الاقتصادي العالمي في الواقع جد هش. يمكن لسلسلة الإنتاج الرأسمالي أن تنقطع في أي من حلقاتها وأحد العوامل يؤثر حتما في جميع العوامل الأخرى. هذا هو السبب وراء العصبية الحالية التي تعرفها أسواق المال العالمية.

  يمكن للأزمة المقبلة أن تبدأ في الولايات المتحدة أو الصين. يمكن أن تفجرها أزمة في البورصة أو ارتفاع مفاجئ في أسعار النفط بسبب الأحداث في الشرق الأوسط. وعندما يتم الوصول إلى النقطة الحاسمة ستنقلب كل السيرورة إلى عكسها. عند هذه النقطة ستنقلب جميع العوامل التي أدت إلى حدوث الازدهار إلى نقيضها. الدين الهائل الذي حقن في الاقتصاد الأمريكي من أجل إطالة مدة ازدهار الاستهلاك سيصير عائقا هائلا، وسيغرق الاقتصاد. وبمجرد ما سيبدأ التراجع لن يتوقف.

  قبل عشر سنوات، يوم الثاني من يوليوز 1997، عوم البنك المركزي التايلاندي العملة (baht) بعد عجزه عن حمايتها من الهجمات المضارباتية. هذه الحركة سببت انهيارا ماليا واقتصاديا سرعان ما امتد إلى اقتصادات أخرى في المنطقة، مما أدى إلى تقليص حاد في معدل نمو الناتج الداخلي وإفلاس الشركات وسبب حدوث تسريحات كثيفة. هذا أدى إلى الأزمة المالية الأسيوية سنة 1997 – 1998، التي أصابت لاحقا بلدانا من قبيل بولندا، تركيا، البرازيل والأرجنتين. إنهم يهنئون أنفسهم الآن على خروجهم من هذه الأزمة لكن من السهل أن تتكرر على صعيد أكبر.

  الفقاعة المضارباتية

  يحتوي كل ازدهار رأسمالي على عنصر مضارباتي، لكن خلال الازدهار الحالي عنصر المضاربة يتجاوز أي شيء سبقت رؤيته لحد الآن. ما يسمى بشركات الأسهم الخاصة متورطة في موجة مضاربات كبيرة للاستيلاء على الشركات، هذه المضاربات لا تتضمن أي نشاط إنتاجي بل تؤدي فقط إلى الإغلاقات والتسريحات وتدمير الصناعة من أجل الربح.

  المبالغ التي صرفت في ما يسمى بالبيع مقابل الدين هائلة. فمقابل مبلغ 32,6 مليار دولار نقدا وتحويل 15,9 مليار إلى ديون، وافقت شركة Bell Canada Enterprises (BCE)، مالكة أكبر شركة اتصالات في كندا، على أن يستولي عليها صندوق المعاشات أونتاريو (Ontario pension fund) واثنتان من شركات الأسهم الخاصة الأمريكية. إذا ما تمت هذه الصفقة فإنها لن تكون أكبر عملية استيلاء في تاريخ كندا فحسب بل أكبر عملية بيع مقابل الدين في العالم. وقد خطفت الأضواء عن أخبار إمكانية قيام شركة أسهم خاصة في بريطانيا ببيع مجموعة Virgin Media الخاصة، التي هي عبارة عن مجموعة قنوات تلفزية وانترنيت وهاتف، مقابل حوالي 11 مليار دولار فقط.

  لقد حقق المستثمرون الكثير من المال خلال سنة 2007. ارتفع مؤشر FTSE العالمي بـ 8,7% مقارنة بالستة أشهر الأولى من السنة. وقد حققت الأسواق الرائدة (أمريكا، بريطانيا، أوروبا واليابان) أرباحا تساوي ثلاثة بالمائة من هذه الأرقام. لكن المزاج اختلف حاليا. إذ يسود هناك قلق وتذبذب هائلين.

  والاتجاه الذي تأكد مؤخرا هو ضعف تمويل عمليات البيع. كانت اليابان واحدة من الأسواق الأكثر تضررا حيث هبط المؤشر بـ 12% خلال شهر يونيو وحده. المستثمرون قلقون من احتمال عمليات إقراض سيئة في قطاع الأبناك. لكن المسألة الأهم هي الاقتصاد الأمريكي.

  ضعف الاقتصاد الأمريكي

  لقد خلقت البورجوازية الأمريكية، في سياق سباقها المحموم من أجل الربح الفوري على حساب الاستقرار البعيد الأمد، أكبر موجة ازدهار مضارباتي في التاريخ. صحيح أن الاقتصاد الأمريكي عرف أسرع وثيرة نمو في العالم المتقدم. لكن هذا راجع فقط إلى بطأ النمو في أماكن أخرى، وخاصة في أوروبا واليابان. لقد تمكن الاقتصاد الأمريكي لحد الآن من تلافي الانكماش. لكنه يتباطئ. نما الاقتصاد بمعدل سنوي يساوي 0,6% خلال الربع الأول من 2007، أقل بالنصف مما كان متوقعا في البداية. أسعار العقارات لا تزال ترتفع، وإن بأبطأ معدل فصلي سجلته خلال عشر سنوات، حسب مكتب الإشراف الفدرالي على مشاريع الإسكان.

  قد تكون الولايات المتحدة فقدت مركزها القيادي في العديد من الحقول، لكنها لا تزال الأولى عالميا في حقل واحد: الديون. وصلت ديون المستهلكين والحكومة والشركات أرقاما قياسية بالنسبة للماضي القريب. يتحدى الاقتصاد الأمريكي في الواقع قوانين الجاذبية الاقتصادية. يعاني من العجز على العديد من المستويات. هناك ازدهار مضارباتي جديد في أسعار العقارات. هذا بدوره حافظ على ازدهار في طلب المستهلكين. لقد تمكن المستهلكون من الاستهلاك أكثر مما تسمح به مداخيلهم من خلال قيامهم بالاقتراض مقابل أرباح منازلهم. ليس لهذا الازدهار وبالرغم من كلمات جورج بوش المطمئنة أي أساس على الإطلاق. إنه مبني على دين وعجز هائلين. وهذا الدين، كما نعلم جميعا، يجب أن يرد.

  تمكن المستهلكون لحد الآن من تمويل نمط عيشهم بواسطة الاقتراض. وكما شرح ماركس يوسع الاقتراض السوق إلى أبعد من حدودها الطبيعية. لكنه يأتي بالخبز اليوم ويحمل الجوع غدا. في النهاية سيقود هذا بالضرورة إلى حدوث أزمة فائض إنتاج عالمية. معدلات الفائدة المرتفعة جعلت القروض أكثر كلفة. الضعف النسبي لادخار المستهلكين يجعل المستثمرين ينتقلون إلى منتوجات من قبيل المعادن التي كانت تعتبر "متجاوزة".

  ساهم الازدهار الذي عرفه قطاع الإسكان خلال السنوات القليلة الماضية بشكل كبير في الاقتصاد، لكنه تباطأ الآن. لم يعد المستهلكون قادرين على استخدام أسهم منازلهم للاستمرار في الإنفاق وقد انتهت أرباح تطوير الملكية. تقدر الحكومة أن الركود الذي عرفه قطاع الإسكان قلص من الناتج الداخلي بحوالي 1% خلال الربع الأول من 2007.

  سيكون لتباطئ سوق الإسكان بالضرورة تأثير على جبل الديون والعقود المرتبطة بالدين التي أصدرت من أجل تمويل الازدهار. سيكون من الضروري عند نقطة محددة أن يتم الضغط على المضاربة الهائلة. تؤكد صحيفة The Economist (29 يونيو): « جانب المشكل الأكثر إثارة للمخاوف في قضية صندوقي تغطية الرهن العقاري اللذان تسيرهما شركة Bear Stearns، المعرضان كلاهما بقوة إلى انهيار قيمتيهما في السوق، ليس هو أن بنكا كبيرا يعيش وضعا خطرا، بل هو الإعلان عن قلة المعلومات التي كانت متوفرة عن المخاطر المحتملة. كانت الأسواق جد مستنفرة والآليات جد معقدة إلى درجة أنه لا أحد يبدو أنه يعرف ما الذي سيحدث عندما يبدأ كل شيء في التراخي»

  هذا الارتباك والقلق المتزايد للبورجوازية جد معبر. إنهم يغرقون في مياه مجهولة. عند نقطة معينة سيكون من الحتمي حدوث تباطؤ للاقتصاد، عندما ستنقلب جدليا جميع العناصر التي أدت إلى حدوث النمو إلى عكسها. خلال العشرين سنة الماضية لم تحدث سوى موجتا انكماش ضعيفتين نسبيا، لكن في الاقتصاد ليس الماضي دليلا على المستقبل. لقد طمأن الاقتصاديون البورجوازيون أنفسهم بشعور وهمي بالأمان بسبب ميلهم إلى إسقاط الاتجاهات التي حدثت في الماضي على الحاضر. من المحتمل أنه عندما سيحدث الانكماش الاقتصادي العالمي المقبل سيكون قويا.

  يشبه اقتصاد الولايات المتحدة ما يحدث لشخصيات أفلام الرسوم المتحركة التي تجري فتتجاوز قمة الجرف وتستمر في الجري إلى أن تكتشف فجأة أنه لا يوجد أي شيء تحت أقدامها، عندها تسقط. ما الذي يدعم الاقتصاد الأمريكي؟ تدخل مبالغ هائلة من الرساميل الأجنبية إلى الولايات المتحدة من أجل تمويل هذه الديون. لو كان لأي بلد آخر أرقام مثل هذه فسيتم إجباره من طرف صندوق النقد الدولي على القيام باقتطاعات عميقة وينتهج سياسة تقشف. لكنها ليست مجرد بلد، إنها الولايات المتحدة، والولايات المتحدة تتحكم في صندوق النقد الدولي!

  هذا المال الأجنبي هو الشيء الوحيد الذي يدعم الاقتصاد الأمريكي. الدولار ينهار حاليا، ويواصل سقوطه. هذا في الواقع تخفيض للعملة، وهو إجراء حمائي يضر بالبلدان الأخرى (تجعل الواردات أكثر كلفة وصادرات الولايات المتحدة أرخص نسبيا). هذا سيكون له آثار سيئة على أوروبا وآسيا، التي ستتضرر صادراتها إلى الولايات المتحدة. لكن ذلك لن يحل مشاكل أمريكا. لكي يصير لذلك تأثير حقيقي من الضروري أن تسقط قيمة الدولار أكثر. إضافة إلى ذلك سينعكس تخفيض قيمة الدولار على شكل ارتفاع في الأسعار في الولايات المتحدة والمزيد من الارتفاع في معدلات الفائدة، مما يهدد إما بحدوث تباطئ اقتصادي أو بالركود.

  يمكن لتدفق المال إلى داخل الولايات المتحدة أن ينقلب إلى تدفق إلى خارجها بنفس السرعة، كما سبق لنا أن رأينا في حالة آسيا سنة 1997. جميع العوامل متوفرة لحدوث انكماش حاد، وسيزيد من تفاقمه التشوهات الهائلة التي تطبع النظام: الاقتراض المكثف، المديونية، الخ. هذه التشوهات ليست سبب الأزمة، بالطبع، سبب الأزمة هو نفس السبب الذي كان أيام ماركس، وقد سبق له أن شرح بوضوح كبير أن السبب في آخر المطاف وراء جميع الأزمات الحقيقية للرأسمالية هو فائض الإنتاج، كما سنشهد ذلك في الصين. لكن في سياق محاولتهم تلافي حدوث الركود عبر مد حدود السوق بشكل مصطنع عبر القروض، لا يعملون سوى على تأجيل حدوثه بجعلهم له أسوء عندما سيحدث بالضرورة.

  ازدهار على حساب العمال

  أحد مميزات الازدهار الحالي هو أن الأجور في جميع البلدان لم ترتفع إلا بنسبة ضئيلة. النسبة الموجهة للأجور من الدخل الوطني بلغت في كل مكان مستوى قياسيا في التدني، بينما النسبة الموجهة للأرباح بلغت مستوى قياسيا في الارتفاع. هذا شيء لطيف جدا بالنسبة للرأسماليين، لكنه ليس لطيفا بالنسبة للعمال! في كل مكان هناك تفاقم وتزايد للامساواة وتركز الرأسمال وصل مستويات غير مسبوقة. بالضرورة سيعاني الطلب من هذا السيناريو.

  بعض الرفاق يتحدثون كثيرا عن ميل معدل الربح إلى الانخفاض. لكن هذا ليس سوى ميل، وليس قانونا مطلقا مثل قانون الجاذبية. إنه لا ينطبق على جميع الظروف. في المجلد الثالث من الرأسمال شرح ماركس أنه توجد عوامل متعارضة يمكنها أن تلغي سقوط معدل الربح لفترة معينة. من بينها الإسهام المتزايد في التجارة العالمية. يجب علينا أن نأخذ هذا بعين الاعتبار.

  خلال المرحلة الأخيرة شهدنا امتدادا هائلا للسوق العالمية، وارتفاعا كبيرا للتقسيم العالمي للعمل. من المنطقي أنه إذا ما دخل مليارا شخص إلى الاقتصاد الرأسمالي العالمي، كما حدث خلال العقدين الأخيرين، سيكون لذلك تأثير. دخول الصين والهند وأوروبا الشرقية وروسيا إلى الاقتصاد الرأسمالي العالمي يعني أسواقا جديدة وحقول أرباح جديدة ومرتفعة للاستثمارات بالنسبة للرأسماليين. لقد مكنهم هذا بدون شك من نسمة أوكسجين أنعشتهم خلال المرحلة الأخيرة.

  لقد كان لها أيضا أعراض جانبية هامة وهي بزوغ قوة عمل جديدة كثيفة على قاعدة أجور متطرفة في تدنيها تمارس ضغطا على الأجور في كل مكان. هناك ضغط كبير من أجل الحفاظ على الأجور منخفضة بينما ترفع بلا كلل فائض القيمة المطلقة والنسبية، إطالة ساعات العمل والرفع من كثافة العمل. هذا يرفع من قسط الأرباح على حساب العمال. كان هناك ارتفاع هائل في الاستغلال في جميع البلدان، لكن هذا بدأ يصل اليوم إلى حدوده.

  الأثر الآخر كان هو تخفيض عام في أسعار البضائع: وهو أحد العناصر الأخرى الموازنة لميل معدلات الربح نحو الانخفاض التي أشار إليها ماركس. لهذا العامل أثر على الرفع من الأرباح لكنه يعمل إلى حد ما على خدمة العمال. فالعامل المتوسط يمكنه الآن أن يشتري منتجات التكنولوجية العالية التي لم يكن بإمكانهم في الماضي أن يحلموا بها: شاشات تلفاز كبيرة، أجهزة DVD، سيارات، هواتف نقالة، جميع هذه المنتجات انخفض سعرها وصار من الممكن الحصول عليها من طرف أغلبية الأشخاص (عبر الاستدانة غالبا). يساعد تخفيض الأسعار أيضا على الحفاظ على الأجور مجمدة، لكن لا يمكن لهذا أن يستمر إلى الأبد. إذ مع تقدم الدورة الاقتصادية يميل التضخم ومعدلات الفائدة إلى الارتفاع: الرهون، والإيجار، تسديد الفوائد، النفط، الضرائب الغير مباشرة، الخ. يخلق الاقتطاع من الأجور الشروط من أجل إعادة إحياء الصراع الاقتصادي.

  خلال المرحلة الأخيرة شهدنا موجات من الإضرابات والإضرابات العامة في فرنسا، إيطاليا، اليونان، بلجيكا، وكندا. خلال الأشهر القليلة الماضية كانت هناك إضرابات وإضرابات عامة في أيسلندا، البيرو، جنوب إفريقيا، نيجيريا، مصر وإسرائيل. وحتى في سويسرا يحضر العمال للقيام بنضالات خلال الخريف. يعتبر هذا استباقا للتطورات التي ستحدث مستقبلا في جميع البلدان الواحد منها بعد الآخر.

  هل كان لتلك العوامل أي تأثير؟ طبعا كان لها تأثير. لقد عملت على إطالة زمن النمو الاقتصادي وقللت من أثر موجات الركود خلال العشرين سنة الأخيرة الماضية. لكن هل حلت المشاكل الجوهرية للرأسمالية؟ الإجابة هي بالتأكيد لا. لقد شرح ماركس أن كل ما يمكن للرأسمالية أن تحققه عبر القروض والمساهمة في الأسواق العالمية، هو تأجيل الركود مقابل خلق الشروط لأزمات أكثر خطورة في المستقبل.

  البورجوازية تحضر الطريق لحدوث ركود هائل على الصعيد العالمي. لكن من المستحيل التوقع متى سيحدث. ما يمكننا قوله هو أن المضاربة الكثيفة التي حدثت في جميع البلدان ستضمن أنه عندما سيحدث الركود سيكون أمرا جديا. تعتبر فقاعة العقار الحالية أكبر فقاعة مضاربات في التاريخ، أكثر بكثير من تلك التي سبقت انهيار سنة 1929.

  جميع المؤشرات تدل على أن الحماس بخصوص الانجازات الأمريكية قد بدأ يفتر. تكلفة الحرب في العراق مدمرة. إنها تكلف حاليا على الأقل مليارا دولار (2b$) أسبوعيا. شعار الحكومة الأمريكية الحالية هو مقولة غورين: "المسدس قبل الزبدة". الحل الوحيد سيكون هو الاقتطاعات والمزيد من الاقتطاعات. بما أنه لا يمكن المساس بالميزانية العسكرية، فإن هذه الاقتطاعات ستضرب أشياء من قبيل المعاشات والتغطية الصحية. الاستقبال الحماسي لفيلم مايكل مور الأخير يبين أن تلك الهجمات ستعرف مقاومة. لقد تحضر المسرح لحدوث مواجهة طبقية هائلة في الولايات المتحدة وفي جميع البلدان الأخرى.

  جميع العناصر تتراكم من أجل حدوث أزمات اجتماعية جدية في الولايات المتحدة. تغلي الجماهير بالغضب. نميل إلى الاستشهاد بالعديد من الأرقام لكن أحيانا يمكن للمرء أن يتعلم أكثر من مفارقة معبرة. كان لفيلم مايكل مور الأخير "Sicko" تأثير قوي داخل الولايات المتحدة. عندما عرض في قاعة سينمائية بتكساس تأثر الجمهور إلى درجة أنهم نظموا اجتماعا مرتجلا بعيد العرض، بمبادرة من رجل أمريكي من أصول أفريقية أكد على أنه: « يجب علينا أن نعمل شيئا ما بخصوص هذا الواقع».

  تتحضر الظروف لحدوث رد فعل عارم ضد كل هذا. ويمكن لبعض أكثر المناطق تخلفا أن تكون أول من يلتحق بالحركة الثورية. يخبرنا الإنجيل أن: « الأول سيصير الأخير والأخير سيصير الأول». لقد حدثت خلال المرحلة الأخيرة حركة للتصنيع بالولايات المتحدة من الشمال الشرقي إلى الجنوب والغرب: العديد من المناطق التي كانت متخلفة ورجعية صارت مصنعة ومنظمة نقابيا. يمكنها أن تصبح سريعا متجذرة لأنها ستضم شرائح حديثة ويافعة من الطبقة العاملة.

  الوضعية العالمية لا تقدم صورة ظريفة هادئة. بل على العكس من ذلك هناك وضع جد متفجر في كل مكان. إمكانيات عظيمة ستنفتح أمام التيار الماركسي على الصعيد العالمي. يمكننا أن نسير إلى الأمام بثقة تامة على أساس الأفكار التي قدمت الدليل المرة تلو الأخرى على أنها صحيحة. يجب علينا أن نتقدم إلى الأمام بحس من الاستنفار والثقة التامة في أفكار الماركسية وفي الطبقة العاملة وفي الأممية وفي أنفسنا.

برشلونة، 24 يوليوز 2007